الخطابات الأربعة

محمد درويش

أخصائي نفسي إكلينيكي – محلل نفس
عضو بالرابطة اللاكانية الدولية للتحليل النفسي
عضو مؤسس برابطة الفضاء الفرويدي الدولي

ما نقدمه هنا هو بمثابة ورقة عمل نتناول فيها بشكل موجز ما سنعيد تناوله عبر سلسلة من اللقاءات التي ينظمها الفضاء الفرويدي الدولي، بدءًا من فبراير  القادم، مناقشين بشكل تفصيلي كل عنصر من عناصر هذه الورقة، وسيعلن برنامج هذه اللقاءات على الموقع الخاص بالرابطة.

قدم لاكان ما درجنا على تسميته بالخطابات الأربعة في حلقته الدراسية "الجانب الآخر من التحليل النفسي " L’Envers de la psychanalyse تلك التي ألقاها في كلية الحقوق في العام الدراسي ١٩٦٩– ١٩٧٠، وكان ذلك بعد أن تم استبعاده من قبل مدرسة المعلمين العليا ENS كشخص غير مرغوب فيه نهاية العام الدراسي السابق (1). ولم يكن هذا الانتقال مجرد استبدال موقع بموقعٍ آخر بقدر ما كان قفزة لمرحلة جديدة في الطرح اللاكاني، مرحلة بدت محتومة ليس فقط بهذا التراكم من الأطروحات التي سبقتها والتي لابد وأنها كانت تمهيدًا لنقلة كيفية جديدة، مرحلة بدت أيضًا مقدرة بحراكٍ اجتماعي ثوري ألزم، كما هو معتاد في كل حراكٍ من هذا النوع، كلًا أن يتخذ موقعه قِبل قضايا ومفاهيم صارت تندفع إلى المقدمة وقبل أخرى صار من الجلي ألا مفر من إعادة معالجتها في ضوء واقع جديد لم يعد من الممكن تجاهله. ولعل أبرز ما طرحه هذا الواقع كما أظهرته أحداث مايو ١٩٦٨ هو إبرازه لأزمة الذات في البنيات الخطابية لهذا العالم الجديد والحاجة إلى إعادة تعريف موقعها، أي الذات، بعد أن تم تهميشها على مستويات عدة، الواقعي منها والنظري. كان هذا بمثابة دفع للمقدمة لمصطلح الخطاب الذي كانت قد تمت إعادة انتاجه في خمسينات القرن الماضي، والذي سيتربع منذ هذا الحين وطوال عقود تمتد حتى يومنا هذا على عرش اهتمام كافة العلوم الإنسانية تقريبًا، كما مثل أيضًا إعادة الذات إلى محور الاهتمام الفلسفي بعد أن كان المسعى الرئيسي لأغلب منظري البنيوية تهميشها، ولكنها عادت هذه المرة في سياقٍ مختلف تبحث فيه عن مخرج من موقعها المغترب في الأبنية الخطابية القائمة.

ولابد هنا وقبل أن ننطلق في تقصينا للخطاب اللاكاني من أن نحدد ابتداءً ما هو المقصود بالمفهومين اللذين اصطلحنا على ترجمتهما: الذات والخطاب، ولا يمكن أن يتاح لنا ذلك إلا بتقصي جذور هذين المصطلحين في اللاتينية وهي جذور لا تماثل تلك التي تعارفنا عليها في لساننا العربي، ولا شك أن مثل هذا التقصي قد يجنبنا الخوض في مسارات تبعد بنا تمامًا عن دلالتهما الأصلية، كما أنه قد يكشف لنا إلى أي حد صار استخدامنا للمصطلحين في العربية قد جانب المقصود بهما اصطلاحًا.
معجميًا تنحدر اللفظة discours التي تعارفنا على ترجمتها "خطاب" من اللفظة اللاتينية discursus والتي كانت تدل على فعل التنقل والارتحال في كل اتجاه إلى أن اتخذت عن طريق المجاز في اللاتينية المتأخرة معنى المحادثة إذ تتخذ مسارًا عشوائيًا أثناء ما تمارسه من تبادل لفظي، وهو ما استمر في الفرنسية إذ انفصل الفعل discourir عن أصله الفيزيائي الذي يطرحه فعل التنقل في كل اتجاه فأصبحت الكلمة تشير إلى أي محادثة أو سرد أو عرض مكتوب أو شفاهي متخصص في مجالات معينة بما فيها السياسة، وفي القرن السابع عشر وتماشيًا مع النظرية الكلاسيكية للغة المنطقية اتخذت معنى التعبير اللفظي عن الأفكار، وفي نفس الحقبة كان تعني أيضًا الفحص العقلاني المدقق للمحادثة، وهو المعنى الذي اختفى(2).
أما فيما يخص الذات sujet ففي اليونانية القديمة كان الاهتمام ينصب أساسًا على الفعل، أما الشيء أو الشخص الذي تدور حوله العبارة فكان يطلق عليه لفظة تعني حرفيًا "ذلك الراقد تحت"، وقد استبدلت في اللاتينية باللفظة subjectum والتي عدلت في الترجمة إلى "ذلك الملقي تحت"، حدث أو عبارة(3). وظل معنى الإخضاع والإذعان هذا قائمًا في العديد من الألسن المعاصرة To subject ; subjection…
أما عن تلك العلاقة التي يمكن أن تربط الذات بالخطاب الذي هو لغة في حالة من الحركة فيمكن أن نوجزها في عبارة كولين مكابي التالية: "استخدم الخطاب كمصطلح في البلاغة الكلاسيكية ليؤكد اللغة كحركة كفعل، وإذا كان البلاغي قد عني بالقبض على اللغة حتى يستطيع أن يتبين العلاقات العديدة التي يمكن أن تدخل فيها الكلمات، لتصنيف الصيغ والموضوعات، فإن الخطاب شكل كلًا من موضوع وهدف هذه الدراسة، فالبلاغة تبدأ من وتنتهي عند الحراك المتزامن للصيغ والذوات في تلفظ مستمر في، على التحديد، خطاب."(4)
ولعل أبرز، إن لم يكن أول، من انتبه لهذه العلاقة بين الذات والخطاب هو بنفينيست، فعند بنفينيست لا يوجد إنسان دون لغة، ولا يوجد تفكير بلا لغة، ولا توجد لغة دون ذاتية في الخطاب. ولقد قدم طرحه عبر مقالات ثلاث نشرت في النصف الثاني من خمسينات القرن الماضي، حيث قام بتمييز نظام الخطاب عن نظام السرد التاريخي من خلال دراسته لأزمنة الفعل في اللغة الفرنسية والضمائر الشخصية، منطلقًا من تعريف للخطاب بأنه "كل تلفظ يفترض متكلمًا ومستمعًا وعند الأول نية التأثير على الآخر بشكل ما، فهو مبدئيًا كل الأشكال المتنوعة من الخطاب الشفهي من كل طبيعة وفي كل مستوى بدءًا من المحادثة التافهة وصولًا إلى الخطبة المفوهة، وهو أيضًا ذلك الكم من المكتوبات التي تعيد إنتاج الخطاب الشفهي أو التي تستعير طريقته في التعبير وأغراضه: مراسلات، مذكرات، مسرحيات، أعمال تعليمية أي باختصار كل الأشكال التي يعبر فيها واحد عن ذاته في مخاطبته لآخر، زاعمًا نفسه كمتحدث، ومنظمًا ما يقوله في فئة الشخص"(5).
وفيما يخص الذات يخلص إلى أنه "في وعبر اللغة يشيد الإنسان نفسه كذات، لأن اللغة وحيدة تأسس مفهومًا للأنا في الواقع، واقعه الذي يكون للوجود"(6). والذاتية كما يراها هي قدرة المتكلم على أن يطرح نفسه كذات لا بالشعور الذي يخبره كل منا بكونه نفسه، ولكن كوحدة نفسية تتعالى على إجمالي الخبرات المعاشة التي تجمعها الذات والتي تؤمن دوام الوعي، فالذاتية ما هي إلا أن يبرز في الكائن خاصية أساسية للغة هي الأنا الذي يقول الأنا.
أما عن العلاقة بين الخطاب والذاتية فيمكن إيجازها في العبارة التالية "اللغة هي إمكانية الذاتية، لأنها تحتوي الأشكال اللغوية الملائمة للتعبير عن الذاتية، ويستحث الخطاب ظهور الذاتية لأنه يتكون من منظمات متميزة، وبطريقة ما تنشر اللغة أشكالًا "فارغة" يوائمها كل مع نفسه أثناء ممارسته الخطاب ويربطها مع شخصه معرفًا في نفس الوقت نفسه كأنا وشريكًا كأنت. إن منظمة الخطاب هي تشييدية لكل الروابط التي تعرف الذات والتي بيَّنْا فقط أكثرها وضوحًا."(7)

تجسد الإسهام الرئيسي لبنفينيست في تمييزه لمحورين رئيسيين للغة، وهما وجود ذات للتلفظ وذات للملفوظ، وهو ما يمثل معبرًا للمرور من علم اللغة إلى ميادين إنسانية أخرى، كما كان بمثابة خطوة أساسية للطرح اللاكاني عامة ولنظريته في البنية الخطابية بصفة خاصة. ومن الطبيعي أن انطلاق لاكان من التحليل النفسي قد أفرغ على مثل هذه البنية خصائص تختلف كيفيًا عن جل الإسهامات التي طرحت سابقة، أو معاصرة، أو تالية على طرحه. وقد ارتكن هذا الطرح إلى مجموعة من المحاور الأساسية التي قد يلزم التعرض لها مسبقًا حتى نتلمس بوضوح خصوصية هذا الطرح وتمايزه، ومن أي منطلقات نظرية ينبع، وهذه المحاور هي:

أولًا: تختلف رؤية لاكان لما هي البنية عما يعنيه أغلب البنيويين بنفس المصطلح، فبينما يرون أن البنية تمثل حالة من الكمال يرى لاكان أن استحالة الكمال أو الإتقان هو أهم ما يميزها، فافتقاد عنصر أو مكون داخل أي بنية هو شرط الأساسي لاستمرارها وديناميكيتها، فالبنيات اللاكانية هي تشييدات حية ذات نهايات مفتوحة تستمد طاقاتها من سعيها لاستعادة هذا العنصر المفتقد والمبحوث عنه. ومفردات من قبيل: افتقاد، فجوة، فشل، هي مفردات لا غنى عنها في الطرح اللاكاني، وفي الوقت الذي تسعى فيه أي نظرية للاتصالات سواء في العلوم الإنسانية أو الطبيعية للوصول لحالة من الإتقان والاكتمال بحيث تصل الرسالة من المرسل إلى المستقبل بوضوح لا يكدرها شيء فإن الخطاب عند لاكان هو حالة من فشل التواصل، بل ويجب أن يكون كذلك، وهذا سبب أننا نستمر في التواصل، "فلو كنا نفهم بعضنا بعضًا تمامًا لبقينا صامتين، ولحسن الحظ أننا كذلك وبذا وجب علينا أن يكلم أحدنا الآخر"( 8).

ثانيًا: سعت البنيوية، في تحررها من النزعة الإنسانية المتمركزة حول الذات، وبخاصة التقليد الفلسفي المبني على الكوجيتو، إلى استبعاد مفهوم الذات وإذابته تمامًا، وذلك بإتباع إستراتيجية يلخصها ملادن دولار بأنها قامت على الدفع إلى الأمام لبنية لا-ذاتية على حساب تلك الذات المدركة لنفسها، بمعنى وجود بعد رمزي تكون فيه الذات ليست أكثر من أثر، ظاهرة مصاحبة épiphénomène، وسواء عند كلود ليفي شتراوس أو فوكو أو ألتوسير أو كريستيفا، وعلى الرغم من الفروق الهائلة بينهم، نجد بوضوح هذا الميل المشترك لإدراك بعد ما خلف أو فيما وراء أو سابق للذات، وبذا يصبح مفهوم الذات كما يشير دولار مفهومًا سيء السمعة مرادفًا لخداع الذات(9). أما لاكان فاختلفت نظرته بحدة عن هذا النموذج بتمسكه الشديد بهذا المصطلح، فعلى الرغم من أنه رأى اللاوعي وفقًا لتوجهات البنيويين كبنية، كما نرى من شعاره الأشهر "اللاوعي مبني كلغة" ولكنه رآه كبنية لها ذات، فعلى جميع المستويات عند لاكان لا توجد عملية أو بنية بدون ذات، كما أن احتفاظ لاكان بالمفهوم يظل تقويضيًا أكثر منه صرفًا بسيطًا للمفهوم.

ثالثًا: الخطاب اللاكاني ليس فقط بنية لغوية بل هو بالضرورة ذو بعد بين-ذاتي وعبر-فردى، فعلى الرغم من أن لاكان في حلقتيه الدراسيتين "الجانب الآخر للتحليل النفسي" و"ثانية" استخدم الخطاب ليصف بنية ضرورية وثابتة من الدلالة (10)، أو بقول آخر "الخطاب هو رابط دلالي، أي علاقة بين دال ودال، وهذه السلاسل من الدوال تمثل بنيات أساسية، كما أن اللغة تبنى هذه الدوال في علاقات ثابتة ومستمرة (11)، إلا أنه لا يجب أن يفهم بوصفه فقط بنية شكلية من الدلالة فلاكان ومبكرًا منذ عام 1953 في مقاله "وظيفة وميدان اللغة" يشير إلى بين ذاتية اللغة، ففعل الدلالة يتضمن آخر، والخطاب يتضمن دائمًا مخاطبة إلى ومن الآخر الكبير، وما التحليل النفسي إلا "خطاب عياني، بالقدر الذي يكون هذا هو ميدان واقع الذات عبر-الفردي"(12). وفي "الجانب الآخر للتحليل النفسي" يؤكد على أن "الخطاب يمتد عبر علاقات معينة أساسية، والتي حرفيًا لا يمكن أن تصان بدون اللغة، ويؤسس عدد من العلاقات الثابتة عبر أداة اللغة، والتي يُنقش بداخلها بالطبع شيئًا ما أكبر، ويذهب أبعد مما تستطيعه الملفوظات الفعلية (13). وفي "ثانية" تتوالى تأكيدات لاكان بوضوح على عبر-فردية الخطاب مشددًا على طبيعته بين-الذاتية، "إن مفهوم الخطاب يجب أن يدرك على أنه رابط اجتماعي منشأ في اللغة" (14)، "إن الخطاب هو ما يحدد شكل الرابط الاجتماعي"(15)، "الرابط الاجتماعي بين الذوات هو تخاطبي discursive لأن اللغة تثبت العلاقة"(16)، "إن اللغة تنتج كائنات متكلمة parlêtres والعلاقة بين مثل هذه الذوات"(17). إذن فالخطاب اللاكاني هو هذا الجانب عبر-الفردي للغة الذي يشيد علاقات اجتماعية -رابطًا اجتماعيًا- فلاكان يربط بين بنية الدلالة والعلاقة بين-الذاتية بأن يصف سلاسل دلالية تخاطبية تبنى علاقات بين-ذاتية ثابتة، ويبسط دانيل تشو الأمر كالتالي "بينما يتحدث الأفراد ككيانات متكلمة أحدهما إلى الآخر يصف لاكان العلاقات الاجتماعية الأوسع، البنيات، أو الروابط التي تصلهم معًا خلال هذا الوسط اللغوي".(18)

رابعًا: ولكن كيف يصوغ لاكان هذه الروابط؟ يذهب لاكان في معالجته للخطاب إلى ما وراء المحتوى ليؤكد على شكلانية Formalisation العلاقات التي يرسمها كل خطاب، وهو كنظام شكلاني مستقل عن أي لفظة متكلمة، فالخطاب يوجد قبل أي لفظة عيانية متكلمة، بل هو من يحدد فعل الكلام العياني، أو كما يقول لاكان "إن ما نعنيه بالخطابات يتخطى إلى حد بعيد حقل الكلام، إنها خطابات بلا كلام ... إن الكلام يأتي ليحتلها فيما بعد إن استطاع" (19). ولا يخفى على أي مفكر المكسب الهائل الذي تمنحه الصياغات الشكلانية على مستوى التجريد، فعن طريق مجموعة من الرموز الضئيلة نستطيع ليس فقط أن نمثل أي شيء بل أيضًا العلاقات التي تربط هذه الأشياء، وعلى الرغم مما تبديه هذه الصياغات من جفاف وصعوبة إلا أنها تجنبنا الكثير من مخاطر التجسيد للمفاهيم والمصطلحات والذي قد يصعب التخلص منه فيما بعد.
ولكن هل كان لاكان هو أول من سعى إلى تقديم مثل هذه الصياغة؟
إن أول محاولة لصياغة شكلانية للخطاب يمكن رصدها في مقال لألتوسير لم ينشر في حياته تحت عنوان "مدونات ثلاث في نظرية الخطابات" ١٩٦٦(20)، وهذه المدونات الثلاثة كانت تمثل مشروعًا تخطيطيًا لخطة عمل جمعي كان ألتوسير يسعى إلى تكوينها عبر حلقة من مريديه هم: ألان باديو وإيتيين باليبار وإيف ديرو وبيير ماشيري. كان ألتوسير يهدف إلى عمل جمعي منظم حول موضوع نظري: قضية نظرية والتي بينما تتلامس مع قطاعات لأنظمة علمية قائمة لن تظهر في أي منهم سواء من ناحية محتواها أو موضوعها النظري. لم ير هذا العمل الجمعي النور أبدًا، ولكن تبقى هذه المدونات الثلاثة عملًا يستحق أن يدرس بعناية لما تكشفه عن جذور فهم ألتوسير لكل من مصطلحي الخطاب والذات فبل أن يصل إلى مقاله الشهير عن أجهزة الدولة الأيديولوجية ١٩٧٠.
يستهل ألتوسير مدوناته من رؤية خاصة به أن التحليل النفسي لا يوجد تحت تصرفه نظرية عامة ولكن فقط ممارسة ونظرية إقليمية مما يضفي عليه وضعية غريبة جدًا: فهو ليس في وضع يسمح له بأن يقدم دليلًا موضوعيًا على علميته، بمعنى أنه ليس في وضع يسمح له أن يعرف تفاضليًا موضوعه النظري في ميدان الموضوعية النظرية، ذلك الميدان الذي يتكون من تفاضل علاقات الموضوعات النظرية المختلفة في الوجود. إن الطريقة الممكنة الوحيدة لأن نمد بدليل على علمية نظرية إقليمية يكون باخضاعها للتوضيح التفاضلي الذي تعين به هذه النظرية الإقليمية موقعها في الميدان المتمايز للموضوعات النظرية القائمة، والنظرية العامة فقط هي التي يمكن أن تشبع هذه الوظيفة عبر علاقاتها المتعاضدة بالموضوعات الأخرى والتي يكون نسقها الميدان القائم للموضوعية العلمية(21).
ويطرح ألتوسير تصوره لهذه النظرية العامة كنظرية في الخطاب مبنية على فهمه هو لنظرية لاكان في الدال وتصوره لتحرير لاكان من آثار كلود ليفي شتراوس. ثم لا يلبث أن يقدم لنا لأول مرة أشكال أربع من الخطاب وهي الخطاب العلمي والخطاب الجمالي وخطاب اللاوعي والخطاب الأيديولوجي.
وهو يرى أنه بمقارنة أشكال الخطاب المختلفة سيمكننا أن نلمح وجود أثر مشترك، فكل خطاب ينتج ذاتية-أثر، أي أن كل خطاب له ذات كرابط ضروري والتي هي واحدة من الآثار، إن لم تكن الأثر الرئيسي لعمله، وتقع نظرية إنتاج ذاتية-أثر في نطاق نظرية الدال. وإذا قارنا الذاتية-آثار المنتجة بواسطة أشكال الخطاب المختلفة سنلاحظ ١- العلاقة ليست نفسها بين كل دال من هذه الدوال وخطابه ٢- وضع الذات المنتجة أو المستقرأة بواسطة الخطاب يختلف باختلاف الخطاب.
وهكذا تشكل الذات الأيديولوجية جزءًا من الخطاب الأيديولوجي فهي حاضرة بشخصها فيه حيث أنها نفسها دال محدد لهذا الخطاب، بينما تكون ذات الخطاب العلمي غائبة بشخصها عنه، لأنه لا يوجد دال يعينها فيه، فشرط وجود الخطاب العلمي هو غياب هذه الذاتية من السلسلة الدلالية وفي اللحظة التي تظهر فيها ينزلق العلم إلى أيديولوجيا، وذات الخطاب الجمالي يمكن القول أنها حاضرة فيه من خلال توسط الآخرين، أما ذات خطاب اللاوعي فتحتل وضعًا مختلفًا فهي ممثلة في سلسلة الدوال بدال واحد يمثلها ويحتل مكانها ولذا فهي غائبة من خطاب اللاوعي بالانتداب. إن نظرية الدال التي من الممكن أن تبرر الذات-أثر لكل خطاب يجب أيضًا أن تبرر هذه الأشكال المختلفة كاحتمالات متعددة للتباين في الذات-شكل(22).
إن الطبيعة الفارقة للذات-أثر والمكان الذي تنتجه تميزيًا الذات كأثر بالنسبة لخطابٍ ما يجب أن ترتبط بالفروق المعينة للبنية في بنيات هذا الخطاب، وهذا الاختلاف في البنية هو ما يسمح لنا بأن نعين الخطابات المختلفة فارقيًا: بمعنى أن هذا الفارق هو ما يجعلنا نتحدث عن كل خطاب على حدا. فعلى سبيل المثال الخطاب الأيديولوجي والذي تكون الذات-أثر حاضرة فيه بشخصها والتي هي بالتالي دال هذا الخطاب ،الدال الرئيسي، يمتلك بنية ذات مركزية مرآوية، فالذات المستقرأة تزدوج بذاتٍ منتِجة، والذات الإمبريقية تزدوج بذات ترانسندنتالية، والذات العلمية والتي تغيب فيها الذات بشخصها وبالتالي لا تكون دالًا في هذا الخطاب، تمتلك بنية لامركزية، تلك التي لنسق من العلاقات المجردة والتي تكون عناصرها عبارة عن مفاهيم ليس أيًا منها مكوِنًا وبمجرد أن يصبح أي منها كذلك ننزلق إلى عالم الخطاب الأيديولوجي. أما في الخطاب الجمالي والذي تحضر الذات-أثر من خلال توسط آخرين، بواسطة تشكيلة مترابطة من دوال متعددة، فيمتلك بنية مزدوجة لعبر مرجعيات والتي يكون فيها كل مركز مزعوم كذلك بواسطة حضور افتراضي للوجود، بمعنى نفي مركز آخر يكون قائمًا في نفس علاقة الريبة، اللا-تحديد، بالنسبة للأول، فعندما يتخذ الفن مركزًا فرديًا فإنه يتحول من الخطاب الجمالي إلى خطاب أيديولوجي، وعندما ينتزع كل ذات من مجالها يتحول إلى خطاب علمي. أما خطاب اللاوعي حيث تكون الذات-أثر غائبة الندب فإننا نتعامل مع بنية كاذبة-المركز محاصرة ببنية من الطيران أو النقص، بنية استعارية.(23)

على الرغم من أن ما يطرحه ألتوسير هنا يعكس اهتمامه بربط مفهوم الذات ببنية الخطاب، ولكن تبقى الذات كأثر، كخاضع، كمنتج ثانوي. كما يبقى هناك خطأ جوهري في صياغته الشكلانية وهي عجزه عن الفصل بين هذه الصياغة ومحتواها (العلم، الجمال، الأيديولوجية، اللاوعي) وهو ما يجعله دائمًا في إطار نظرية محلية على عكس هدفه الأساسي. وهو وإن بدأ بالتحليل النفسي فإنه ينتهي خارج كل من التحليل النفسي ورؤية لاكان للدال.

أما فوكو فقد عمل على المادة العيانية للدال وهو ما جعل تركيزه ينصب أساسًا على محتوى الخطاب، ومع ذلك ففكرة طرح تصنيفات عامة للأشكال الخطابية لم تكن غائبة عنده على الإطلاق، ففي محاضرته الشهيرة التي ألقاها في 22 فبراير 1969 بناءً على دعوة من الرابطة الفرنسية للفلسفة تحت عنوان "ما هو الكاتب"(24) يطرح تعبير تصنيفيةTypologie الخطاب. ثم لا يلبث في مارس 1970 في الجزء الثاني من "محاضرة عن ساد" أن يقطع تحليله للخطاب السادي بهذه العبارة التي تستعرض أول محاولاته لتقديم مثل هذا التصنيف:
" لأجل الهيكلة لنا القول بوجود أنماط أربع من الخطاب، أولًا خطاب اللاوعي، إذا صدقنا في ذلك فرويد، وهو إثباتي تمامًا، إنه يثبت أن الأشياء تكون في نفس الوقت الذي يثبت أن الرغبة ترغب؛ إذن، إثباتان في مستوى الوجود والرغبة، وعلى الطرف الآخر الخطاب الفصامي الذي ينفي كل شيء ، لا شيء يوجد( العالم لا يوجد، الطبيعة لا توجد، أنا لا أوجد، الآخرون لا يوجدون) وهذا النفي يغلف نفي الرغبة: أنا لا أرغب شيئًا. إذن هناك خطاب اللاوعي كلي الإثبات والخطاب الفصامي كلي النفي. فضلًا عن ذلك يوجد الخطاب الأيديولوجي، أو الفلسفي أو الديني الّذي يثبت في نظام الحقيقة (الله، الطبيعة، العالم والروح يوجدون) والذي ينفي في جانب الحقيقة- "ومن ثم، فأنت لن ترغب، ومن ثم ستتخلى". ويوجد كخطاب رابع خطاب الفاسق، خطاب الفاسق الذي هو مقلوب الخطاب الأيديولوجي، والذي نستطيع أن نسميه خطاب المنحرف.إنه الخطاب الذي ينفي كل الذي يثبته الخطاب الفلسفي، الذي ينفي من ثم في نظام الإقرار، والذي يثبت في نظام العرف والذي يقول: الله غير موجود، الروح غير موجودة، الطبيعة غير موجودة إذن أنا أرغب."(25)

يعود فوكو لطرح نفس هذه الرباعية مرة ثانية في درس من محاضراته الأخيرة في الكوليج دو فرانس 1984 والتي نشرت تحت عنوان شجاعة الحقيقة، وعلى التحديد في درس الأول من فبراير في استمرارٍ لتناوله مفهوم البارهيزيا parrhesia Παρρησια ليقدم أربع أنماط من الخطاب الذي يتناول الحقيقة كمحتوى يجب إبلاغه، وهم خطاب ممارس البارهيزيا وخطاب النبي وخطاب الحكيم وخطاب التقني. تبقى محاولات فوكو في طرح أشكال خطابية قاصرة لأنها في كل مرة غير قادرة عن الانفصال عن محتوى ثابت ومعرف، ففي مثال ساد هي موقف محتويات أربع من النفي والإثبات، وفي مثال البارهيزيا تكون الحقيقة هي المحتوى والبنية تصاغ في إطار آلية إبلاغ هذه الحقيقة وهو ما يؤدي إلى استحالة التوصل إلى صياغات شكلانية مكتملة يأتي فيها محتوى ليحل محل محتوى آخر دون تغيير في قوانين وآليات عمل البنيات الخطابية. وانتقادنا هذا لا يعني التقليل من أهمية الأطروحات الفوكوية، وإن كنا نرى أن الطرح اللاكاني يذهب إلى ما وراءها بل ويحتويها.

الخطاب اللاكاني

الأوضاع يصوغ
 لاكان البنية الخطابية بدءًا من بناء هيكلي على شكل مصفوفة ذات أوضاع أربع يمكن تصورها كرقعة لعب ستتحرك عليها عناصر أربع ،وأربع فقط، للخطاب، وفكرة هذه السكيما هي فكرة قديمة تعيد مع تعديلات ضئيلة النموذج الأساسي لمنطق الإقرارات في القرون الوسطى التي يُتَحرك فيها من حد إلى نقيضه إلى نفيه إلى نفي نفيه(26)

وهكذا فإن E ، A معكوسان، و I ، O متعارضان في السكيما التقليدية، وقد ظهرت هذه السكيما ثانية عند جريماس في مربعه السميوطيقي الشهير، إلا أن لاكان يتبناها مع تعديلات جوهرية، ، ففي أي بنية اتصالات تقليدية يبدأ فيها الميل البشري لإقامة روابط اجتماعية بفاعل agent موجهًا رسالة إلى آخر autre متلقي بهدف إحداث تأثير أو غرض ما وهو ما يؤدي إلى منتج produit ما سواء سلبًا أو إيجابًا، أما السكيما اللاكانية فتختلف في أنها وانطلاقًا من معطيات التحليل النفسي تؤكد على أنه وراء كل فاعل في أي بنية خطابية توجد حقيقة vérité، وهذه الحقيقة هي المحرك الأول والبداية لكل خطاب.
إن الأنا لا يتكلم إنه مُتَكَلَم، وهو ما يظهر ليس فحسب في المواقف الإكلينيكية ولكن أيضًا نستطيع أن نتلمسه بكل يسر في حياتنا اليومية فيما يقع لنا من هفوات ونساوات وزلات لسان، ففي كل الأحوال نحن لا نتكلم ولكننا نُتَكَلم، وهذا الكلام مدفوع برغبة ما بصرف النظر عن موافقتنا الواعية من عدمها، وهو ما يوجزه فرويد بعبارته الشهيرة "إن الأنا ليس السيد في منزله"، تلك العبارة التي يعيد لاكان صياغتها عبر تعريفه للدال بأنه "هو هذا الذي يمثل الذات لدال آخر"، ولكن كيف ذلك؟.  

ما هي الحقيقة عند لاكان؟ إنها الحقيقة الفرويدية، حقيقة اللاوعي وبالتالي فلا مجال لهذه الحقيقة التي لا يمكن أن توضع كاملة في كلمات، فهي دائمًا نصف قول mi-dire ، فكما علمنا فرويد أن التلفظ الكامل بالحقيقة مستحيل لأن الكبت الأولى يبقى الموضوع الأصلي خارج نطاق اللغة نهائيًا، وفيما وراء مبدأ اللذة في نفس الوقت، فينتج عن ذلك اجبار على التكرار لانهائي كمحاولة لا تنتهي لتلفظ غير القابل للتلفظ، وهو ما يؤدي إلى ذلك الإلحاح اللانهائي لهذه "الحقيقة النصف قول". إن وجود حقيقة لاواعية مخفاة للفاعل وعنه تجعل منه فاعلًا مصطنعًا مزيفًا ولذا يطلق عليه لاكان فيما بعد semblant مشابه، والمشابه هنا لا يستخدم كما في مرحلة سابقة عند لاكان ليشير إلى عالم المبديات الذي يؤسس بواسطة المتخيل، أي بوصفه ظاهرة متخيلة تحتاج لأن تميز عن الرمزي، بل من هذه اللحظة يصير المشابه جزءًا من البنية الخطابية: "الخطاب هكذا هو دائمًا خطاب للمشابه، وهو هنا الموضوع المناسب الذي بناء عليه تدار اقتصادية الخطاب نفسها" (27). وبينما نتوقع خطًا منطقيًا يقوم فيه الفاعل بترجمة الحقيقة في رسالة إلى الأخر فيؤدي هذا إلى إنتاج ما يعود بشكل رجعي إلى المرسل نجدنا بإزاء موقف مختلف تمامًا، حيث يصير كل خطاب بنية ذات نهاية مفتوحة تعمل فيه الوظائف ذات النهايات المفتوحة، الناتجة عن عجز البنية، على أن تبقى الخطابات دائرة.
وبمعنى آخر فإن هذا الموقف يوجد فاصلان يضافان إلى البنية الصورية للخطاب يمثلان تمزقًا في الخط الاتصالي . ففي المستوى الأعلى من المصفوفة لدينا فاصل الاستحالة impossibilité فإذا كان الفاعل الوهمي مدفوعًا برغبة تُكوِن حقيقته، تلك الحقيقة التي لا يمكن التلفظ بها كلية فإنه لن يستطيع أن ينقل رغبته إلى الآخر، "الرسالة التي يرسلها الفاعل لا تُسلم أبدًا كما انتوي لها"(28) ومن ثم يصير التواصل المتقن بالكلمات مستحيل، هذا هو التفسير اللاكاني لصعوبات الاتصال.
وفي المستوى الأسفل نجد فاصل عدم القدرة impuissance وهو المعني بالرابط بين المنتج والحقيقة فمنتج هذا الخطاب في الآخر ليس له علاقة بحقيقة الفاعل، فلو كان ممكنًا للفاعل أن يلفظ حقيقته كاملة للآخر لاستجاب هذا الآخر بمنتج مناسب، ولأن هذا الشرط غير متوافر فإن المنتج لا يمكن أن يطابق ما في وضع الحقيقة. إننا نتحدث فلا نستطيع أن ننجح في تلفظ حقيقة الأمر وكنتيجة يستحيل إدراك الرغبة في موقعي الذي هو موقعك مما يؤدى إلى عدم القدرة على التقاء المنتج بالحقيقة.
والخط الفاصل بين المستوى الأعلى والمستوى الأسفل يمثل أيضًا الانتقال من مستوى الملفوظ إلى مستوى التلفظ، كما أنه انتقال من مستوى الوعي إلى مستوى اللاوعي. ولا يجب أن نغفل الأثر الذي تمارسه الحقيقة في هذه السكيما على الآخر والإمداد الذي يغذي به المنتج الفاعل، وهو ما يعبر عنه لاكان بسهمين متقاطعين يصل أحدهم بين الحقيقة والآخر من جهة والثاني بين المنتج والفاعل.

هذا وقد قدم لاكان عدة صياغات لهذه السكيما وهو ما لا يجب أن يفهم على أنه تحديث لهذه السكيما بحيث تحل الصياغة الأحدث محل الأقدم، بقدر ما هي قراءات مختلفة يضيف بعضها إلى بعض.

الحدود الأربعة للخطاب

إمعانًا في التأكيد على شكلانية خطاباته يستخدم لاكان حدودًا أربع يطلق عليها الأقدام الأربعة الدوارة quadripodes أو الحدود termes الأربعة وهي على التوالي S1 S2 a $ بحيث يحتل كل حدٍ منها مكانًا من الأماكن الأربع في السكيما الأساسية للخطاب مع احتفاظها بهذا الترتيب مما ينتج ما سيطلق عليه لاكان فيما بعد ماتيما(29) أي شكلًا ما من أشكال الخطاب وهي دوارة لأنه بتدويرها سواء في اتجاه أو عكس عقارب الساعة تنتج أشكال أو ماتيمات أربع من الخطاب ولا يمكن أن تنتج أكثر من هذه الأشكال الأربعة طالما احتفظت بترتيبها هذا: 

و يؤكد لاكان " ليس من سبيل المصادفة أنني وضعت هذه الأحرف الصغيرة هنا، ذاك أنني لا أريد أن تبدو الأشياء متخذة مظهرًا دلاليًا، أنا لا أريد أن تكتسب دلالة ولكن سلطة أن تدل" (30)، "إن الشكلانية هي هدفنا ونموذجنا، لماذا؟ لأن الشكلانية في شكل الماتيما يمكن أن تبث كاملة "(31)، والماتيما Mathème هو مصطلح صكه لاكان في 1971(32) مكثفًا مصطلح كلود ليفي شتراوس Mythème وكلمة يونانية تعني الدرس-المعرفة-التدريس وهي عبر صياغتها الرياضية غير الجبرية تفتح الطريق إلى تقديم غير القابل للتدريس وبالمثل تفتح مجالًا للتعامل مع الواقعي الذي يستحيل تمثله أو ترميزه، "الماتيمات...تبث تكامليًا، وليس عند المرء على الإطلاق أي فكرة عما تعني، ولكنها تبث، ومع ذلك يبقى حقيقيًا أنها تبث بمساعدة اللغة، وهو ما يجعل الأمر كله مزعزعًا"(33) أو كما يقول نوبس " إن العافية الابستمولوجية التي نهدف بالماتيمات إلى تقديم استقلال علمي لها تتعرض للخطر بسبب إطارها اللغوي، كما لو أن الهدف من الشكلانية يتطلب إلى درجة ما خطوة فيما وراء الخطاب"(34).

أما الحدود فيستلهمها لاكان من فهمه للخطاب كبنية لغوية في الأساس فيعطي فيها الأولوية كما يفعل دومًا للدال، ذلك الدال S1 الذي يمثل الذات $ لدال آخر S2 وهو الأمر غير الممكن تحققه تمامًا حيث يوجد دومًا فارق سيتجسد في a (موضوع سبب الرغبة). ولنلق بنظرة أكثر على هذه الحدود:

S2: يبدأ الوالدين في الحديث عن أولادهم حتى من قبل أن يولدوا مكونين مخزون من الصفات متعلقة أصلًا برغباتهم ومشاريعهم الناجحة أو المجهضة المرتبطة بهذا الطفل ، فيختارون أسمه ويستدعون هوية جنسه ويصوغون مشروعات خاصة به وهم في أدائهم هذا يفَعِلون مؤشرات تكون افتراضات عما سيحدث. هل سيكون هادئًا؟ إنه عصبي؛ سيكون لاعب كرة؛ إنه يشبه عمه في قوته؛ إنها جميلة مثل عمتها...الخ. إن كل هذه البيانات تشكل معرفة S2 جاهزة لاحتضان الطفل، إنها هذا المكان الذي لن يحتله الطفل تمامًا مما ينتج فجوة، إن أحاديث الآباء عبر هذه الكلمات التي تقال للطفل تسجل نفسها في مستودع، أي في سلسلة من الدوال. يقول لاكان في سيميناره عن العلاقة بالموضوع "يوجد دال مشيد بالفعل ومبنى بالفعل، يوجد مصنع قائم بالفعل وهو مستمر في العمل...هذا المصنع هو اللغة والتي تعمل هنا منذ وقت طويل بقدر ما يمكن أن تتذكروا، وحرفيًا فإنكم لا يمكن أن تتذكروا ما وراءها، إنني أتحدث عن التاريخ البشرى بأكمله، فطالما وجدت دوال فاعلة فإن الذوات تنتظم في أطر نفسية عبر اللعبة المناسبة لهذه الدوال.(35)
إذنS2 هي بطارية الدوال (36)، إنها مجموع الدوال أي المعرفة الخالصة المجردة Savoir التي تخلو من أي طابع شخصي Connaissance سواء على شكل جهاز منظم مفصل معبر أو على شكل مهاري حدثي وهي تشيد عبر نسق من العناصر المتفاضلة، وبلغة الجبر هي باختصار مقام كل الدوال الأخرى أي سلسلة أو شبكة الدوال، أنها مقام المعرفة المتضمنة في هذه الشبكة (37) .
أو كما تقول كريستين كيمبل "إنها تشير إلى الحقل الرمزي، إنها سلسلة أو شبكة الدوال التي تشكل الذات، إنها تصف كلًا من شكل معرفة الذات...وكذلك شكل المعرفة عن الذات" (38)
و تشير جيان شرويد إلى أن هذا الشكل الأخير من المعرفة "ليس مقصورًا على ما تكون الذات على وعي به، فالجهاز الكامل من الروابط في السلسلة الدلالية، المعرفة، هو دومًا على الأقل لاواعيًا جزئيًا"، وهل اللاوعي إلا معرفة تتحدث عن نفسها(39).

الدال السيدS1 : يقول شيماما " يمكننا أن نتصور الدال السيد بصفة عامة كدال يتخذ، عند لحظة معينة، قيمة خاصة "(40) . إنه ذاك الدال الترانسندالي الذي يقدم الذات لسلاسل الدلالة أو كما يشير بريتشير إنه أي دال تستثمر فيه الذات هويتها، أي دال تتعين فيه الذات أو ضده فتُشيد قيمة موجبة أو سالبة. إن الأنظمة المعرفية تنتج نفسيًا واجتماعيًا من وضع هذه الأنظمة للذات في أوضاع محددة فيها وبذا تؤسس هوية محددة لهذه الذات (41)، وأهم عامل في هذه الأوضاع هو السمة الأحادية trait unaire أي الدلالة الأبكر التي يخبر من خلالها الطفل ذاته كنتاج للدلالات المرتبطة بالآخر الكبير، الأم – الأب- على نطاق أوسع المجتمع،، أي هذا التوحد الأولى والذي يستمر عبر وجود الذات في ممارسة تأثير حاسم على رغبة الشخص وأفكاره وإدراكه وسلوكه. وهذه السمة الأحادية تعزز وتمتد بواسطة التوحدات الثانوية والتي تخدم كتجسدات لها، وفي الحقيقة فإن التوحد الأولى لا يستطيع أن يظهر إلا عبر التوحدات الثانوية والتي عادة ما تكون جماعية في شكل قيم ومثل تلعب دورًا في الخطاب. وهذا على وجه التحديد ما يسميه لاكان الدال السيد(42)، إن الدوال السيدة ذات دلالة ليس فقط في القوة التي تضفيها على الرسائل، الكلام، ولكن في الدور الأوسع الذي تلعبه في تكوين الذات وعلى الأخص في إعطاء الذات إحساس بالهوية و التوجه (43)، ولأنه يمثل الذات لدال آخر فهو يبزغ من وجودي في نفسي من الدافع أن أكون نفسي لنفسي أي يكون لي هوية والتي فيها أدرك نفسي وأُواجه وأُدرك بواسطة الآخر(44). أمثلة الدال السيد كثيرة ففي خطاب القائد العسكري نتوقع أن نسمع دوال مثل التحرير – الحدود – القوة الانضباط...الخ. وفى خطاب رجل الدين قد نسمع دوال مثل الله – الشيطان- الجنة – النار. وفي خطاب رجل السياسة قد نستمع إلى دوال مثل الحرية – الديمقراطية – تبادل السلطة. ويرى لاكان أن فرويد أنتج عددًا من الدوال السيدة مثل اللاوعي – التخييل – الهو – الأنا... الخ.

$ الذات المنقسمة : إن صورة الذات الحرة ذات الإرادة المستقلة كما تصورها الفلسفة الليبرالية التقليدية والتي هي واحدة من أهم دوال السيد للنظرية الديمقراطية الحديثة هي صورة هذائية لا يعرفها التحليل النفسي بعامة واللاكاني بخاصة، إن الذات عند لاكان أقرب للتقليد الهيجلي، فهي ذات منشطرة سلبية مغتربة(45)، هي تلك الذات التي توجد في مجتمع معين وتتشكل عبر علاقات بين-ذاتية في النظام الرمزي ولا تكون محدودة بالمستوى الواعي ولكن تمتد في المستويات اللاواعية، إنها تختلف عن تلك التي تعرف ما تريد أو على الأقل تبدو كما لو أنها تعرف، إن الذات عند لاكان لا تعرف حقيقة رغبتها وربما حتى لا تريد أن تعرف بل ما هو أسوأ أنها قد تنحو نحو تدمير نفسها، إنها الذات المتكلمة التي تعمل عبر اللغة فتخلق بالإذعان للنظام الرمزي، هذا الإذعان الذي يحدث في اللحظة التي يتعلم فيها الطفل الكلام، أي يطبع اجتماعيًا. دعونا نتناول الأمر بشكل ترتيب زمني:
إن الطفل حديث الولادة يصرخ مدفوعًا بحاجته besoin الجسدية، وهي صرخة بلا معنى، فتستمع الأم (أو من يحل محلها )، وهي المسجلة في الكلام أو النظام الرمزي (S2)، إلى هذه الصرخة وتفسرها كنداء يوجهُ الطفل إليها، وهو ما يعنى أنها تفترض في طفلها ذاتًا وتنسب معنى (S1 ) لهذه الصرخة فتكسو الواقعي Réel(46) بقشرة من الرمزي، وبذا تصير الأم ما يسميه لاكان الآخر الكبير لطفلها فتحتل موقع المستودع اللغوي وسلسلة الدوال. وهنا تفرض اللغة اغترابًا أوليًا غير قابل للاختزال في بنية الذات.
يؤسَس اتزان فسيولوجي للطفل المولود حديثًا وتسجل الاستجابة S1 كإشباع افتتاحي للحاجات مصحوبًا بكلام الأم (47) ثم لا تلبث أن تجد حاجة فسيولوجية أخرى تحدث إحساسًا جديدًا، يبكى الطفل وينتظر استجابة مطابقة تمامًا لتلك التي سجلها داخل جسده، ولكن الاستجابة لا تكون أبدًا نفس الاستجابة، وبذا تحدث فجوة غير قابلة للاختزال تظهر بين S1 وS2 . إن هذا هو أصل عدم الإشباع والافتقاد وأيضًا ضرورة أن يمر الطفل إلى الطلب demande ، ويتجدد عدم الإشباع والافتقاد في الاستجابات التالية S3 و S4 ، فالأم تفسر نداءات الطفل وتترجمها كمطالب تبعًا لفهمها وأسلوبها وظروفها، فالأم المهتمة بالتغذية ستفسر الموقف على أنه جائع والأم الوسواسية سوف تسارع إلى أن تغير له ملابسه وهكذا... وهو ما تطلق عليه بييرا أولانييه عنف التفسير(48)، عنف لأن به خطر الخطأ، عنف لا غنى عنه لأنه من هذا الخطأ ومن هذه الأزمة بين الطلب المصاغ واستجابة الآخر الكبير تولد الرغبة، فاستجابات الأم هي دائمًا غير مطابقة أو متأخرة أو ليست استجابة تامة، وهي لا تستطيع بالمثل أن تشبع مطلب الحب النهم لطفلها هذا المطلب الذي يقع فيما وراء الحاجة ويقود إلى الرغبة.
إن عدم المواءمة هذا والفشل الأصيل هو ما يسميه التحليل النفسي انقسام الذات، وكون الذات واقعة بين الدالين S1 و S2 هو ما قاد لاكان لأن يعتبر أن $ الذات المنشطرة ليست شيئًا آخر سوى تمزق بين الدالين المحددين في علاقتهما بالمعرفة، إنها ليست مستقلة فهي منقسمة دومًا بين وعيها ولاوعيها، بين ما تريد وما تستطيع فعله، بين ما يمكن أن تقوله وما يستحيل قوله(49). وهي تتجسد كما يقول مارك بريتشير "في الطرق المتنوعة التي نفشل فيها أن نعين أنفسنا أو نمسك بها أو نتطابق معها، وأهم مظاهرها الفجوة بين التفكير والكينونة، فالأنا التي أفكر فيها لا تتطابق أبدًا مع الأنا التي تقوم بالتفكير، والنوازع والخصائص التي أعتبرها لي لا تتطابق مع القوى التي تكون كينونتي وتقود أفكاري و أفعالي، بل تتصارع وتتعارض معها" (50) أو كما يقول لاكان " إما ألا أفكر أو لا أكون...فهناك حيث أفكر لا أدرك نفسي، أنا لا أكون، إنه اللاوعي هناك حيث أكون. (51)
وتشير شرويدر إلى أن الذات المنشطرة والمقسومة على نفسها، والتي تعاني من حالة من الاغتراب مفروضة عليها، تكون الاعتقاد اللاواعي بأنها كانت يومًا كلآ غير منشطر في الطفولة، إنه هذا الحلم النوستالجى لوجود وقت ما قبل هذا الاغتراب، وأن هذا الانشطار الناتج عن إذعانها للنظام الرمزي لهذا الآخر الكبير قد فعل شيئًا ما ليسبب هذا الانشطار، وهذا جزئيًا صحيح بالطبع، إن ما هو هذائي هو هذه الأخيولة أن الذات وجدت يومًا كذات قبل انشطارها والحق أن كليتها أمل وطموح وحالة مستقبلية أكثر منها حالة سابقة. (52)
وهو ما يؤكده بروس فينك بأن لفظة الذات المنشطرة مضللة إذ أنها قد توحي بوجود ذات غير منشطرة، فهذا الانشطار هو ذاتيتنا، الانشطار ليس صفة تعدل الاسم و لكنه مرادف ، الانشطار = الذات (53)

موضوع سبب الرغبة المفقود a
إن عدم التطابق بين S1 و S2 لن ينتج فقط ذاتًا منقسمة، فالفرق بينهما سينتج بقية، تستعصي على النظام الرمزي، ومن ثم تبحث عن موضوعات تمثلها، هذا هو موضوع سبب الرغبة a والذي اعتبره لاكان أهم إسهاماته في نظرية فرويد، وقد ظل لاكان يمحص هذا المفهوم ويطوره عبر عقدين من الزمان، وليس غرضنا هنا تقديم عرض للتطور التاريخي لهذا المفهوم عند لاكان، وهو ما يضيق بحق المجال هنا عنه، ولكن سنهدف إلى تقديمه بالشكل الذي يخدم موضوعنا الراهن عن الخطاب.
و a ليس هو الموضوع الجزئي الكلايني وكذلك ليس موضوع وينيكوت الانتقالي، ذلك أنه ليس موضوعًا واقعيًا ينتمي إلى العالم الخارجي، شيء chose، بل هو الوسيلة التي تتخذها الوظيفة لكي تمارس مهامها، الثدي – البراز – الأعضاء التناسلية ...، والتي تُكون خصائصه العلاقاتية الأساس للأنواع المختلفة من العلاقات التي يمكن أن تكون لنا مع العالم الخارجي، على سبيل المثال التحكم بالنسبة للبراز، الإثارة بالنسبة للأعضاء التناسلية وهكذا (54). إن الذات تبحث في أن تعين موضوع فعلي لكي تفسر رغبتها، فعلى الرغم من أن الرغبة الحقيقية للإنسان هي رغبة الآخر الكبير، أي تلك التي تدرك في العلاقات بين-الذاتية، فإن الذات تعزي رغبتها إلى a وبهذه الطريقة فإن العلاقات بين-الذاتية تستبدل بالعلاقات بالموضوع (55).
وعلى هذا فالموضوع a يمكن أن تحتله أشياء عدة، أي شيء يمكن أن يملأ الفراغ الناتج عن الفقد، فالمرأة، أي المرأة كموضوع أخيولة الرجل، بقدر ما هي مرغوبة من الرجل تلعب دور الموضوع a، وهو دور يمكن أن يلعبه حيوان أليف أو رأسمال وظواهر أخرى عديدة. وفي بداية الحياة فإن هذا الدور تلعبه في البداية أعضاء جسد عديدة وكذلك وظائف جسدية، سواء كانت لنا أو للآخرين، وبالنسبة للطفل فإن ثدي الأم، وكذلك صوتها، ونظرتها تملأ هذه الفجوة، وتسد هذا الافتقاد، وكذلك فإن الطفل نفسه قد يؤدى هذه الوظيفة للوالدين، ويشير لاكان أننا نبدأ جميعًا الحياة كموضوعa (56).
ولا يوجد دال لموضوع سبب الرغبة a حيث من المستحيل تمثيله في الاقتصاد الدلالي للخطاب، فالشخص يبنى علاقته معه برده إلى موضوع متخيل، ولذا فهو يعمل في السجل الخيالي فيبدو كموضوع مليء بالمحتوى التخييلي وكذلك في السجل الرمزي (57) .
وهكذا يمكن أن نعرف a إنه هذا الجزء من كينونة الذات الذي يخرج من وينتج بواسطة الهوية المنشاة للذات في تمفصل S1-S2، وهكذا فإن موضوع سبب الرغبة a يمسك بمفتاح فهم كلآ من المتعة jouissance وماهية وقوع الدال في قدر الكائن المتكلم. إن a يمثل هكذا نقص الكينونة التي تسبب الرغبة وتكمن وراء الوجدان بالمثل وكسبب الرغبة وكأرضية الوجدان، ومن هنا فإن a هو ما يحيى علم النفس الجمعي والجماهيري(58).


خطاب السيد  

يقول أرفيه دو فالفار "تعرف لاكان على خطاب السيد على أنه خطاب اللاوعي ومن هذه الحقيقة يمكن أن نفهم صمود هذا الخطاب عبر ألفيتين"، وهو أول الخطابات ليس فقط لأسباب تاريخية ولكن أيضًا لأن النظام الرمزي يتكون على شاكلته، وهو أيضًا يعطينا تعبيرًا شكليًا عن المركب الأوديبي وتكوين الذات وهو الخطاب الذي تتطابق فيه الحدود مع المواقع (59) .
والفاعل هنا هو الدال السيد الذي نجح في التماهي مع ذاته لدرجة أن يصدق بالفعل أنه كامل كلى غير منقسم مطابق لنفسه، أو كما يصفه لاكان إنه ذلك الدال المعين الذي يعطيني فكرة أنني أكون سيد نفسي "maître /m’être à moi-même "(60)، واحتلال الدال السيد وضع الفاعل يضفى على الرسالة الصادرة قوة تفسيرية كاملة و/أو سلطة أخلاقية على دوال السيد المطروحة ويعزو كل الدوال الأخرى، موضوعات – مفاهيم – قضايا، لها(61). وفي فعل ذلك فإن متلقي الرسالة يُفعل دور المعرفة S2 وكنتيجة لتفعيل هذه الوظيفة فإنه ينتج المزيد من المتعة a، المزيد من المتعة المكبوتة، تحت الفاصل، أي التي لا يمكن الاستمتاع بها لأنه لا مكان لها في نظام المعرفة S2 الذي يُفَعَل كاستجابة للسيد S1. إن خطاب السيد يحرم a السبب غير المرمز للرغبة على المتلقي، العبد، ذاك الذي لا قوة له ولا صوت، أي لا شرعية لذاتيته، ورغبة الدال السيد S1 في أن يلحق ب S2 التي تقبع في مكان الآخر هي رغبة مستحيلة فحيث يوجد دال ثان فإن الذات تنقسم بينهما بالضرورة، وهو ما يفسر وجود تلك الذات المنقسمة في وضع الحقيقة، الحقيقة المخفاة للسيد هي أنه هو أيضًا منقسم، أو بالتعبير الفرويدي فإن الأب أيضًا يخضع لعملية الخصاء، ونتيجة سعيه المستحيل في أن يكون واحدًا غير منقسم عبر الدوال تتكون حالة من التناقض الرئيسي، ذلك أن هذا السعي ينتهي إلى الإنتاج المتزايد دومًا لموضوع سبب الرغبة المفقود a (62).
إن موضوع سبب الرغبة a لا يمكن أن يكون في علاقة مع الذات المنقسمة $، وينتج عن هذا أن تصير الأخيولة الرئيسية a$ في بنية خطاب السيد مستحيلة، وبذا يصير الخطاب بلا قدرة على التخييل (63) . ويشرح جيجيك ذلك بأن وهم إشارة السيد هو الالتقاء التام بين مستوى التلفظ (الوضع الذاتي الذي أتحدث منه) ومستوى المحتوى الملفوظ وهو ما يميز السيد في فعل الخطاب حيث أن كليتي تمتصني وأكون ما أقول، باختصار التحقق الكلي والاحتواء الذاتي الأدائي. إن هذا التلاقي المثالي يستبعد بعد المتخيل، فالتخييل على التحديد ينشأ لكي يملأ الفجوة ين المحتوى الملفوظ وبين ما وراء الملفوظ. ولاستحالة استبعاد بعد المتخيل من كينونتنا فالمصير المحتوم لخطاب السيد هو الفشل (64) .
وليس من العسير تبين تأثر لاكان شديد الوضوح في صياغته لهذا الخطاب بجدل السيد والعبد الهيجلي، فالدال السيد S1 ذلك الدال الهرائي الذي لا معنى له ولا عقل وراءه باحتلاله موقع الفاعل يجب أن يطاع، ليس لأن ذلك أحسن أو أهم ولكن لأنه يطلب الطاعة. إنه يخاطب العبد S2 في وضع الآخر ذاك الذي يتعلم وهو في وضع عبوديته شيئًا ما، معرفة ما، يخدم بها سيده(65)، و لكن السيد غير معني بالمعرفة، "السيد الحقيقي لا يرغب في أن يعرف أي شيء على الإطلاق -إن ما يرغبه هو أن تعمل الأشياء" (66) فهو ككل السادة عند لاكان "له عقل عصفور" (67)، فالمهم هو أن يظل كل شيء يعمل وأن يمتد سلطانه وتستمر قوته، إنه لا يخاطب الآخر كذات وإنما كدور وظيفي، كعبد – كخادم – كجندي –...الخ (68). ويشير فيرهايجه إلى ذلك الديالكتيك في العلاقة بين S1 وS2 فبينما يحتمل الآخر وهم السيد أن المعرفة القابعة في طرف الآخر هي معرفته هو، يكون العبد قد أستعبد سيده والذي بدون معرفته لن يبقى سيدًا (69) .
و أمثلة خطاب السيد لا حصر لها ويؤكد برانى وآخرون أن خطاب السيد يمكن أن يرى في أي سلطوية حيث يقوم ديكتاتور ما، دال سيد، بإصدار الأوامر بينما متلقي هذه الأوامر يعرف ماذا عليه أن يفعل دون أن يعرف لماذا يفعل، أو بتعبير سياسي فإن الأمر ببساطة أنهم لن يعرفوا دوافع الديكتاتور الحقيقية، وفي تنفيذ أوامره لن يعرفوا حقًا ما ينتجونه ذلك لأنه هو نفسه غير واعٍ بعجزه وحقيقته المغتربة (70).
وفي مجال الطب قد يظهر لنا خطاب السيد، أنظر كيف يعمل الطبيب كدال سيد دون اعتبار لذاتيته المنقسمة، المحجوبة عنه كجزء من حقيقته، وفي عمله كدال سيد فإنه يختزل المرضى إلى موضوعات لمعرفته وهو ما يتبدى في مصطلحاته، على سبيل المثال مريض القلب في الغرفة 16 أو حالة السرطان في الرعاية (71) .
وفي مجال الفلسفة على سبيل يعزز وينمى هذا الخطاب مجموعة محددة من دوال السيد فمثلا الانطولوجيا، والتي ترى كل الظواهر بمصطلحات دالها المركزي -الكينونة- تأسس دوال سيد أخرى مثل الديمومة و الصيرورة...الخ، لتعمل كحاملة لمعاني مطلقة، وبذلك تفرض معنى وقيمة على كل الدوال الأخرى، وبالمثل الإيطيقا ستعنى بالتدليل على الأفعال بمصطلحات الدوال السيدة التي تؤسسها في موقعها من أو مقابلتها للخير الذي هو مؤسسها، بينما سترى الأبستمولوجيا كل الظواهر بمصطلحات دوالها السيدة مثل المعرفة – الحقيقة – الواقع (72) .
وكذلك التدريس والذي يبدأ كخطاب سيادة بفرض مفاهيم أساسية للنظام، أي دوال سيد تخدم على تأسيس وشرح إجراءات أو جسم المعرفة اللذين يكونان هذا النظام. وحتى عام 1969 كان لاكان يعتبر العلم الحديث في جانب خطاب السيد. فالعلم ليس أساسًا مسألة تُطور فهمنا، ولكنه قوة تكون وتحافظ على خطاب السيد، فعلى الرغم أنه يزعم أنه مكرس لفهم الواقع عبر الأبحاث الإمبريقية فإنه يعمل بكفاءة على تشجيع دوال السيد التي تسوده، أي أنه بدلًا من استخدام مواجهته مع الواقع في الأبحاث الإمبريقية لكي يتحدى الباراديم السائد S1 للمعرفة S2 فإن العلم يستخدم هذه المواجهة ليلحق الواقع أكثر وأكثر بهذه المملكة التي تحكمها الدوال السيدة، التي لا تتبنى فقط الدوال السيدة التي تشيد الباراديم التفسيري للأنظمة العلمية ذاتها بل وتوجه أيضًا الأجندات الاجتماعية والسياسية الأوسع لمجتمعنا، فعلى سبيل المثال الدوال السيدة من قبيل القوة – الحرية – الاستقلال – الفردية – الأسرة ...الخ لا تحدد فقط أي المؤسسات العلمية التي ستتلقى الدعم المالي الأساسي، ولكنها تحدد أيضًا أي قضايا قد حددت كأسئلة وأي مشاكل تحل(73).
وأما عن الثورة فيقول لاكان "إن ما أعنيه بذلك أنه [أي خطاب السيد] يحيط بكل شيء، حتى ما يُظن أنه ثورة، أو أكثر تحديدًا ما يسمى رومانتيكيًا الثورة، فخطاب السيد ينجز ثورته بالتولي عكس الاتجاه الذي يأبزم فيه نفسه"(74). إن الثورة، والتي هي ليست ظاهرة عسكرية أو حكومية، تحدث في اللحظة التي لا يصير تدوير عناصر الخطاب في بنية خطاب السيد ممكنة، حيث يصير الدال السيد هو السائد ويشل العناصر الأخرى للخطاب فلا تستطيع حراكًا فتتمزق سيادتها. وفي الستينات حين كان كل شيء مسيس في باريس منتجًا خطابًا شموليًا للسيد، وهو ما شجع بخاصة هؤلاء الداعين إلى الثورة أن يلحقوا كل جوانب الحياة بخطاب السياسة مدركين كل الظواهر بدوال سيدة مثل الإمبريالية – السيادة – الحرية – القمع – الثورة نفسها. إن رفع الثورة إلى مصاف الدال السيد قد أدى لا إلى تشجيع تغيير جذري، ولكن إلى تعزيز تعبير S1-S2 لخطاب السيد الكامن خلف طغيان النظام S2 في العالم المتقدم اليوم (75) .
ولكن كيف يمكن إيقاف هذا الميكانيزم وهو ما يراه لاكان ممكنًا. إن الإجابة ليست في بلاغة الثورة، فتأثير خطاب ماركس على سبيل المثال لم يغير شيئًا فيما يتعلق بثبات خطاب السيد، فالماركسية لم تنجح في الإطاحة بإمبريالية خطاب السيد، ولكن في تبديل بسيط في توزيع قوى الخطاب، على سبيل المثال إحلال دال سيد مثل الفرد بالعامل. وهنا ينبهنا لاكان إلى أن الدعوة إلى ثورة سياسية هي فقط البحث عن سيد. فأي حركة جمعية كما أشار فرويد تبنى على أمثَلة، وهو ما يعيد، كما يقول لاكان، إنتاج خطاب السيد. إن هذا الموضوع المؤمثل idéalisé أو الوظيفة المنسوبة له كدوال سيدة يتكون حولها نظام شمولي إمبريالي جديد(76) . ولكن إذا كانت تمردات البلاغة والسياسة تعيد ببساطة خطاب السيد وإمبرياليته فكيف يكون من الممكن التخلص من هذا الطغيان؟ إن الإجابة عند لاكان تكون بتشجيع الخطاب المقابل، خطاب المحلل.

خطاب الجامعي  

كما سبق وبينا فقبل أن نولد وقبل أن نتعلم الكلام فإننا نحتل وضع الآخر في المصفوفة، ونفعل ذلك في شكلa ، كقطعة من الواقع غير مستوعبة بعد، كموضوع رغبات الآخرين وبخاصة الوالدين، وبخضوعنا في هذا الوضع إلى نظام سائد شمولي من المعرفة\العقيدة S2 فإننا نُصنع لنكون أنفسنا ذوات مغتربة منذ اللحظة الأولى في خبراتنا قبل اللفظية عن أنفسنا والعالم والتي تتوسطها أفعال وتصرفات الآباء أو من يحل محلهم والتي هي جزئيًا مُقدرة بنسق من المعرفة\العقيدة أو اللغة التي تسكنهم وبالدور الذي يعزونه لنا من خلال هذا النسق عندما يتحدثون عنا أو يفكرون فينا على سبيل المثال كطبيب أو مهندس أو ملكة جمال...الخ . ثم عندما نبدأ في فهم اللغة وتكلمها فإن وعينا بذاتنا وهويتنا يكون بوضعها في الأوضاع التي تبيحها دوال النظام S2(77).
إذا أدرنا حدود خطاب السيد خطوة عكس عقارب الساعة سنحصل على خطاب الجامعي الذي تصير فيه المعرفة المؤسسية هي الفاعل، ويصير الآخر هو موضوع الرغبة a، إن الرابط الاجتماعي ينتج من الرغبة في الوصول إلى الموضوع عبر المعرفة، هذه المعرفة التي تقدم كوحدة تراكمية منظمة شفافة فتبدو كما لو أنها خارجة مباشرة من المراجع، والحقيقة المخبأة بالطبع هي أنها تعمل فقط إذا ضمنا لها دال سيد. يقول فيرهايجه "إن كل حقل معرفي يعمل بفضل هذا الضمان، فحتى في مجالنا ما أكثر ما نردد: "قد قال لاكان أن ..."، "قد قال فرويد ..."(78). ولعل المثل الأولي للعلاقة بين المعرفة والدال السيد هو بالطبع ديكارت الذي احتاج الله ليضمن صواب علمه" (79). وفي وضع الآخر نجد الموضوع المفقود سبب الرغبة، والعلاقة بين هذا الموضوع وسلسلة الدلالة هي بنياويًا مستحيلة، فبما أن الموضوع هو على التحديد هذا العنصر-الشيء das Ding- الذي يكون فيما وراء الدال فإن سلسلة الدلالة هي الفاعل الأقل مناسبة للوصول إليه، وكنتيجة فإن منتج الخطاب هو المزيد من انقسام الذات، فكلما زاد استخدام المعرفة من أجل الوصول إلى الموضوع كلما أصبحت الذات أكثر انقسامًا بين الدوال وازداد بعدنا عن السبب الحقيقي لرغبتنا. وكذلك ففي هذا الخطاب العلاقة بين الذات والدال السيد غير ممكنة، فالدال يفرز الدوال دون أن يكون هناك علاقة مع ذاتيته $ S1 //، وهذا هو واحد من أهم متطلبات العلم الكلاسيكية ألا وهو الموضوعية والذي يظهرها هذا الخطاب كوهم أساسي (80).
إن نظرة متأنية على سر بناء هذا الخطاب ستكشف هذه القوة وهذا الطغيان الذي يميزه، فليس فقط لأن المتحدث هنا هو المعرفة المنظمة التي تمتلك المنطق والحجة ولكن لأن ما يقبع في وضع الحقيقة دوال سيدة مطلقة القوة، وهو ما يجعل المتلقي في موقف لا يحسد عليه، إنها الدوال السيدة والتي تعمل أغلبها خلسة، ففي مجال العلم على سبيل المثال فإن الدال السيد الرئيسي هو المعرفة نفسها، إنه من المستحيل ألا نطيع الأوامر أي الدال السيد أو القيمة المطلقة التي تكون في مكان الحقيقة. (استمر دومًا في أن تعلم المزيد ). إن كل استجواب عن قيمة الدال السيد سوف يسحق ببساطة، كون المعرفة قيمة وبخاصة المعرفة العلمية، إنه ما لا يقبل النقاش في عصر العلم هذا(81). إن الأرضية التي يقف عليها هذا الدال السيد أنه يتكون من دال سيد أكثر أصولية، من أنا متطابق مع نفسه، من أنا ترانسندنتالي، إنها أسطورة الأنا المثالي، الأنا الذي يسود والذي بواسطته شيء ما يتوحد مع نفسه أي ذاك الناطق، إنه على التحديد ما لا يستطيع خطاب الجامعي أن يستبعده من المكان الذي توجد به حقيقته. إن كل من يلفظ معرفة علمية فإنه أوتوماتيكيآ يزعم لنفسه وضع الذات التي لها هذه المعرفة المتماسكة الشمولية الذات التي يجب أن تكون هي نفسها ثابتة متسقة متوحدة بنفسها (82). وهذا ليس أكثر أو أقل من وضع الأنا كدال سيد ذو قدرة مطلقة. انظر كيف يتحدث رجال العلم بأنواعه المختلفة .
ولأن الدال السيد هو من يسود خفية فإن خطاب الجامعي هو بشكل ما خادم فرعى لخطاب السيد، وهو ما يتبدى في كثير من بلدان العالم الثالث حيث يتخفى خطاب السيد خلف مؤسسات شكلية يكون هدفها تمرير خطاب السيد تحت غطاء من المعرفة والمؤسسية الزائفة بشكل فج، إن خطاب الجامعي هو إضفاء الشرعية العقلانية على خطاب السيد، إن الجامعة هي ذراع للإنتاج الرأسمالي، أو المركب العسكري الصناعي، إن الحقيقة خلف خطاب الجامعي هو أنه بعد كل شيء خطاب السيد. إن المعرفة هنا تستجوب فائض القيمة a ، منتج الاقتصاد الرأسمالي والذي يأخذ شكل خسارة أو طرح من قيمة العامل، وتعقلنها، إن المنتج أو الخسارة هي هنا الذات المنقسمة المغتربة ولأن الفاعل هو الذات العارفة فإن الذات غير العارفة تنتج و تستبعد في نفس الوقت(83) .
إن التأثير الشمولي و الطاغي لهذا الخطاب يتضح أكثر ما يتضح في البيروقراطية والتعليم ، إن البيروقراطية ربما تكون أرقى أشكال خطاب الجامعي، إنها ليست شيئًا سوى معرفة (84)، أي نظام غير شخصي نقى، نظام ولا شيء آخر، فلا مكان للذوات الشخصية ورغباتها وخصوصيتها، فعلى الأفراد أن تفكر وتتصرف وترغب فقط بالطرق التي تُفعِل وتعيد إنتاج وتمد النظام، فالبيروقراطية تعمل على تعليم، بالمعنى الحرفي للكلمة، أنماط معينة من الأشخاص.
أما التعليم فهو اللحظة الأولية في طرح لاكان لخطاب الجامعي، فهو يؤكد لمستمعيه والذين كان أكثرهم من الطلاب أنه عبر بنية خطاب الجامعي ووضعهم خلاله يمكن فهم الكثير من الظواهر التي كانت واقعة في هذا الوقت، فالطلاب كان وضعهم الخطابي وضع المستَغل، إن ما كان يعذبهم ويدفعهم إلى الاحتجاج والتمرد لم يكن أن المعرفة التي يحصلون عليها ليست راسخة ومتينة ولكن أنه لم يكن أمامهم في داخل هذا الخطاب سوي أن يتخذوا سبيلًا متعرجًا مع أساتذتهم فينصاعوا ويعملوا كوسائل وكفائض قيمة للنظام في نفس الوقت(85)، إن فائض القيمة الذي يكلف الطلاب بإنتاجه هو الثقافة وبقدر ما ينتجونها -عبر أطروحاتهم على سبيل المثال- فإنهم ينعشون النظام، فوظائف مثل هذه الأطروحات تعزز S2 والذي بواسطته يُستغلون ويغتربون (86) .
إن مجابهة مثل هذا الخطاب الطاغي الشمولي لا تقبع في الاستراتجيات الثورية التقليدية مثل تحالف العمال والفلاحين، فعند لاكان هذا النوع من التحالف على وجه التحديد هو ما أدى إلى سيادة خطاب الجامعي في الإتحاد السوفيتي، الذي ما هو إلا مجتمع ذو نظام شمولي كانت تسوده S2 . وطالما أستمر الطلاب في الحديث فإنهم يبقون في إطار خطاب الجامعي باحثين عن خطاب جديد للسيد(87). "إن المكان الوحيد الذي يمكن أن تؤدى إليه الرغبة الثورية هو إلى خطاب للسيد"، "إن ما تطمحون إليه كثوريين هو سيد. سيكون لكم واحد" (88).
إن الفلسفة التي رأيناها تمارس طغيانها حتى فيما بين دروبها المختلفة نراها هنا تعمل كخادم مخلص فتضع نفسها في عقلنة ودعم الدال السيد كما يفعل أسوأ أنواع العلم، والتاريخ مليء بأمثلة من الفلاسفة الذين عملوا في خدمة السادة.
و يشير فينك (89)إلى أن نوع المعرفة المتضمن في خطاب الجامعي والذي لا يهدف إلا إلى التبرير، بالمعنى الأكثر تحقيرًا للكلمة، يمكن أن نتخيله ليس كنوع التفكير الذي يحاول أن يمسك بالواقع وأن يحتوي الصعوبات التي تسببها التناقضات المنطقية والفيزيقية، ولكن كنوع من المحاولة الموسوعية لإفراغ ميدانٍ ما، تذكر مثلًا أنماط الشخصية ال 810 أو هدف أوجست كونت في علم اجتماع شامل. إن العمل في خدمة الدال السيد سيؤدى في النهاية إلى العقل و التبرير المزيف.

خطاب الهستيري

يشير فولكريك (101) إلى ذلك التشابه بين خطاب المحلل في المجتمعات المعاصرة وخطاب العراف في اليونان القديمة، وهو ربما ما قد فكر فيه فرويد نفسه، وهي نفس الفكرة التي راودت لاكان مرات عديدة، وهي أن لغز اللاوعي قد أخذ مكان لغز آلهة الأوليمب. ويعطى فيرهايجه مثلًا شيقًا يوضح الأمر، "إن ذاك يذكرني بالحكايات الشعبية التي فيها المحبوب -موضوع الرغبة- لسبب أو لآخر لم يعد يستطيع الكلام، ولذا فعلى البطل أن يخلق حلًا والذي من خلاله بالضرورة يجب أن يواجه كينونته غير المعروفة له"(102).
تتشكل بنية خطاب المحلل عندما يحتل موضوع سبب الرغبة a مكان الفاعل، وهذا الموضوع المفقود الذي يوجد في وضع المحلل المستمع يجبر الآخر أن يأخذ في اعتباره كينونته المنقسمة a------$، وهذه العلاقة بين الفاعل والآخر مستحيلة لأنها تحيل المحلل إلى سبب رغبة الآخر وتستبعده كذات وتختزله كبقية (103) أو حتى كبقايا بين الدوال، وهو أحد الأسباب التي قادت لاكان إلى أن يقرر استحالة أن تكون محللاً والحل الوحيد هو أن تعمل محللًا لشخص ما لزمن محدد.
إن هذه العلاقة المستحيلة بين موضوع سبب الرغبة a وبين الذات المنقسمة $ هي بالطبع أساس نمو الطرح الذي من خلاله ستكون الذات قادرة على تدوير موضوعها، وهو أحد أهداف التحليل، وهو ما يسميه لاكان عبرانية التخييل فإذا كنا هنا في وضع عكس خطاب السيد الذي يحرم التخييل فإن الخطاب التحليلي يجلب هذه العلاقة إلى المقدمة بشكل معكوس فمن عدم القدرة تصبح مستحيلة، ولكنها استحالة يمكن ارتيادها من خلال آثارها(104) .
إن منتج هذا الخطاب هو الدال الرئيس، بمصطلحات فرويد المسيطر الأوديبي الخاص لهذه الذات، إن وظيفة المحلل هي أن تحضر الذات إلى هذه النقطة، ولكن بطريقة متناقضة، فالوضع التحليلي يُفَعل من خلال ذات غير مفعلة وكيان مختزل في وضع موضوع، ولذا فإن النتيجة النهائية للخطاب التحليلي تكون جذرية فيما وراء عالم الخداع والمتشابه والذي نبدو فيه جميعًا نرجسيًا متشابهين، ذلك أننا أساسًا مختلفين، ففي الخطاب التحليلي نخضع ذاتًا ما مشيدة ومفككة نفسها عبر عملية التحليل، بينما يكون الطرف الآخر عتبة نخطو عليها.
إن وضع المعرفة مميز جدًا في هذا الخطاب، إنه واحد من أهم توجهات نظرية وممارسة فرويد فيما يتعلق على التحديد بكيفية استفادة المحلل بمعرفته، وهذه الطريقة التي يوضحها خطاب المحلل هي طريقة شديدة التعارض، فالمعرفة التي تقبع في وضع الحقيقة لا يمكن أن تستحضر في التحليل ذلك لأن موضوع سبب الرغبة a يكون في وضع الفاعل وبالتالي فهي معرفة غير منطوقة، فالمحلل يعرف حقًا، إنه بالتأكيد يعرف، ولكنه لا يستطيع أن يفعل كثيرًا بمعرفته هذه طالما كان في وضع تحليلي.
إن الطرح الذي ينتجه المريض أثناء التحليل يقوم على افتراض أنه يمتلك المعرفة القابعة في وضع الحقيقة، حقيقة ما يعانى منه المريض، وفيما يرغب وما الذي يجيب على رغباته ومعاناته، و مهما كانت الاستجابة النوعية للمحلل فإنها تكون شديدة الفعالية فتمثل للمريض ما قد أستبعد من الخطاب a أي سبب رغبته، إن المواجهة مع هذا العنصر المرفوض هو ما ينتج عمق وحدة انقسام الذات أو الاغتراب الضروري للمرضى لكي يرغبوا في فصل أنفسهم عن بعض الدوال السيدة المُغَرِبة والتي تجسد تماهيات هؤلاء المرضى الرمزية فتنتج توحدات أخف حدة في شموليتها وصراعيتها وقيودها. إن تفسيرات المحلل التي تمثل a سبب رغبة المريض إنما تعضدها معرفة المحلل الضمنية والتي سبق وقلنا أنها تكون في وضع الحقيقة. إن هذه المعرفة التي حصلها المحلل عبر تكوينه، أو المعرفة المكتسبة من الإصغاء للمحلَل تختلف هنا تمامًا عن تلك الموجودة في خطابي السيد والجامعي، إنها معرفة يسميها لاكان أسطورية، فبينما معرفة خطابي الجامعي والسيد أو المعرفة الرياضية كما يصفها لاكان تؤكد على الهوية المطلقة كمرجعية للذات، فإن المعرفة الأسطورية تؤكد على العلاقات، إن المعرفة المنطقية الرياضية تشكل نظام حشو متماسك تمامًا، إستاتيكي، ذاتي المرجع، منغلق على ذاته، ومثل هذه المعرفة النظام ترفض الحقيقة في ديناميكيتها المنتجة ل a . أما المعرفة الأسطورية على الجانب الآخر فهي ذلك الشكل من المعرفة الذي يشيد حقيقة خطاب المحلل ( والذي يكبته المريض ) إنها معرفة منفصلة، شكل مغترب تمامًا عن خطاب العلم، ففي المعرفة الأسطورية في خطاب المحلل تظهر الحقيقة نفسها فقط في تبدلات الأشياء التي تكون متعارضة تمامًا والتي من الضروري أن تبقى دائرة حول نفسها. إن الشكل الأسطوري للمعرفة هو الوحيد الذي يتجنب استبعاد a لأنه لا يقدم هويات مطلقة مشيِدة بوضوح، ذاتية المرجع، ولكن نظامًا من المتقابلات متجسدًا في صور وأخيولات لا تقدم هويات لا لبس فيها بلا معاني أو قيم.
إن هذه الأسس في المعرفة الأسطورية اللاواعية التي تمكن مُفَعِل خطاب التحليل أن يكشف ويعبر عن a سبب الرغبة التي تكون بالنسبة لها هذه المعرفة شاهد صامت. إن هذا الخطاب لا ينسحب فقط على الأفراد بل إنه يمتد للمجتمع ككل. إن هذا الوضع يوفر الفرصة الحقيقية لإنتاج ثورة حقيقية في العلاقة مع خطاب السيد. لكي تحدث ثورة لا يجب أن تكون فوضويًا ولكن محللًا. إن الوضع بالنسبة للثقافة يعنى قراءة الخطابات المتعارضة المتبادلة المنفصلة لثقافة ما من أجل الكشف عن a التخييل اللاواعي سبب الرغبة و التي تعمل من وراء واجهة دوال السيد وكل الجهاز الدال .
إن خطاب المحلل هو هذا الذي يوفر وسائل شديدة الكفاءة في مواجهة الطغيان النفسي والاجتماعي المُمَارس عبر اللغة. أنه يفعل ذلك بوضع $ في وضع مستلم الرسالة مما يؤدى إلى أنه عوضًا عن الاغتراب والحصر والخزي والرغبة والأعراض فإنه ينتج دوالًا سيدة جديدة وقيمًا مطلقة وصياغاتٍ جديدة للهوية والكينونة. إن هذا يعنى تحررًا كاملًا من الطغيان وانضمامًا أبديًا إلى واحات الحرية حيث تظل الذات خاضعة لدال سيد جديد. إن هذا يعنى أن ما ينتجه هذا الخطاب هو خطاب سيد جديد وهو ما يحيل العملية إلى عملية دائرية أكثر منها تقدمية، ومع ذلك فهناك اختلاف جوهري في هذا الخطاب الجديد للسيد، فدوال السيد هنا تنتجها الذات بنفسها و لا تفرض عليها من الخارج؛ إن خطاب المحلل يسمح بإنتاج دال سيد ذو طابع مختلف، فهو ليس مطلقًا وهو انسيابي منفتح أكثر، ذو تكوين إجرائي وأصلب في تكوين هوية الذات.
إن خطاب المحلل قابل أن ينتج مثل هذه الاستجابة لأنه يعارض الإرادة الكلية للسيادة متورطًا في طيران مستمر بين المعنى و الالتباس في إزاحة لا تتوقف أبدآ. إن وضع a في وضع المسيطر هو ما يتيح على التحديد وضع ما تم استبعاده من الترميز وقُمع في خطاب السيد. إن المحلل يعمل أولًا على أن يستنبط من المريض خطابًا ذا بنية هستيرية تتكشف فيه الذات المغتربة ذات الخزي والحصر واللا معنى. إن مظاهر هذه الذات المنقسمة ليست فقط في المحتوى الموضوعي لخطاب المريض أي في اعترافاته حول رغبته، إحباطه، حصره، خزيه ...الخ لكن أيضًا في أسلوب كلامه والطبيعة الخاصة لتشبيهاته وهفواته وإشاراته وما يحذفه و ما ينساه ...الخ. واستجابة المحلل لهذا الخطاب الهستيري للمريض تنير وتؤكد ما قد أستبعد أو كبت أي a، و هذه الاستجابة من المحلل ربما لا تحتوى على أي تفسير ظاهر على الإطلاق فربما تتكون ببساطة من علامات ترقيم لكلام المريض في نهاية الجلسة أو لفظ علامة تعجب عند نقطة معينة في كلام المريض أو حتى أحيانًا بالصمت والأداء كشاهد على كلام المريض.

***

أن أشكال الخطابات هي هياكل عارية أو حقائب فارغة تحدد شكل محتواها وهي قادرة على استيعاب عدد لانهائي من المحتويات الخطابية، ولابد أن نحذر من خطر ما يمكن تسميته التفعيل العياني الذي في ضوءه يصير خطاب الهستيري هو الطريقة التي يدخل بها الهستيري مع آخر، وخطاب السيد مرادف لنوع من السلطة الأرستقراطية النرجسية، وخطاب الجامعي هو خداع المعلمين، وخطاب المحلل هو الخطاب الحقيقي والوحيد. والحقيقة أن هذه الأبنية الشكلانية هي في حالة تفاعلية وتبادلية طوال الوقت، و يمكننا أن نضرب مثلًا بحالة المريض الهستيري والذي قد يأتي إلى غرفة الاستشارة بخطاب هستيري تقليدي حيث يجبر الآخر على اتخاذ وضع الدال السيد باحثًا عن تلك المعرفة السرية؛ و نفس المريض قد يتخذ خطابًا للسيد وهو موقف غير غريب وفي هذه الحالة يتوحد بأعراضه كدال سيد على الآخر أن يعمل كضمان لأنه من المفترض أنه يمتلك المعرفة " أنا مريضة باكتئاب ما بعد الولادة ، أنا اكتئاب ما بعد الولادة، من فضلك عالجني، افعل أي شيء في سبيل ذلك طالما لن يكون على أن أدخل اللعبة كذات"؛ وكذلك قد يدخل الهستيري علينا بخطاب الجامعة فيدهشنا بكم معتبر من المعرفة الموضوعية عن حالته بحيث يختزل الآخر إلى موضوع ملتزم الصمت، والذي من خلاله يتجنب الدال السيد المختبئ في وضع الحقيقة. هكذا نرى أن اختزال الهستيريا في خطاب الهستيري هو خطأ فادح .
أما عن تغيير الخطابات، تلك الصيحة التي تملأ عالمنا العربي، حيث تنشط شعارات من قبيل: تغيير الخطاب أو تصويب الخطاب، وبخاصة الديني، فيشير بروس فينك ومعه كل الحق إلى أن الخطابات ليست كالقبعات نخلع هذه لنرتدي تلك، فالاعتقاد بأننا بتغيير محتوى أي خطاب بشكل إرادي سننجز مثل هذا التغيير هو اعتقاد ساذج، فأي خطاب هو بنية لها محتوى، وهذا المحتوى يمكن صبه دائمًا ُي أي من الأشكال الأربعة السابقة وفقًا لطبيعة الرابط الاجتماعي المحتم ببنية إقتصادية واجتماعية وتاريخية.

باريس – ٢١/١/٢٠٢١

الهوامش