إيتيقا المنحرف

جون بول بومو
ترجمة محمد درويش

نسمي، بعد لاكان، علاقة الذات بالمتعة إيتيقا.
وللسيمينار الذي ندرسه هذا العام شأن بما كتبه لاكان في "ليتوراتير" من أن ما يفصلنا عن متعة الشيء هو ساحلي/حرفي littoral/littéral، والذي هو ليس بشيءٍ آخر سوى اللاوعي، فضلًا عن أن ما يحدد وضعنا الإيتيقي هو وضع أي منا فيما يخص المتعة وفيما يخص هذا الساحلي، الذي نقاد إليه بواسطة التكرار والرغبة.
وإن كان لاكان قد استخدم مصطلح الإيتيقا، فذلك لغرض آخر غير أن يوصي كطبيب بما ينبغي على "الشخص الحسن" و"الشخص الخير" أن يفعلا، ومن ثم لماذا لا نتساءل عما يمكن أن تكون إيتيقا المنحرف هذه؟ وإذ تجنبت في عنواني أن أقول الذات المنحرفة فذلك حتى لا أقتصره على الذوات المنحرفة، إذ قد توجد إيتيقا منحرفة تتجاوز إيتيقا ذوات الذين نقول عنهم منحرفين.
هذا ويبدو لي أن المنحرف مقتاد دائمًا في إيتيقا خاصة به؛ حتى وإن أمكن لنا القول أن وضع المنحرف هو في الأساس إيتيقي بقدر ما يؤجج العلاقة بالمتعة، وقولنا هذا ليس بلا عواقب.
يقول لاكان عن المنحرف أشياءً مدهشة: فالمنحرف طالما يشغل الفالوس كل الأهمية بالنسبة له فهو أحد أشكال السوي، فهو يمنح نفسه بإخلاصٍ لمتعة الآخر الكبير؛ إنه يناضل لأجل المتعة؛ إنه يناضل لأجل أن يتمم الآخر الكبير؛ لكي يملأ صدع الآخر الكبير. كيف يمكن أن نستفيد من هذه المقدمات في طرح المشكلة؟
نحن نعرف أن المنحرف هو ذاك الذي، حتى اليوم على كل حالٍ، يستغل القانون كي يستحضر موضوع المتعة، ولكن الرغبة تفترض الموضوع الغائب. وحديثنا هنا عن الرغبة لا يتأتى من فراغ إذ نريد أن ننبه إلى أن لاكان في "كانت مع ساد" لا يتحدث عن رغبة عندما يتعلق الأمر بالمنحرف، ولكن على الأحرى عن "إرادة المتعة".
أسمي إذن منحرف ذاك الذي يستغل القانون والأب ليأجج المتعة برد الموضوع موجبًا.
الخلاصة أذكركم أن إيتيقا المنحرف اتخذت وتتخذ موقعًا أساسيًا في تاريخنا، أما الآن فقد أصبحت هذه الإيتيقا المتحررة من رابطها بالفالوس والقانون خطيرة.
الانحراف "الكلاسيكي"
وُصِفَت وضعية المسار المنحرف في "كانت مع ساد" بطريقة مختصرة ومحددة، حتى وإن لم يوظف مصطلح "انحراف" فيما يعد مقدمة أدبية. سأُذَّكر بحدوده.
- يوجد أولًا "دور الحضور"، فالمنحرف يستحضر الموضوع الذي نسميه الموضوع أ الصغيرة في تباينات متنوعة حللها لاكان بغزارة في "من الآخر الكبير إلى الآخر" وفي "المفاهيم الأساسية" وفي "كانت مع ساد". هذا وقد علمنا فرويد من قبل أن هذا الاستحضار للموضوع يُفَعل بمدير فالوسي، والموضوع الذي لا ينبغي يكون هنا مستعرضًا، منَصّْبًا، إنه لا يتلألأ على خلفية من الغياب محيلًا إلى S(Ά) التي هي الحقيقة الكامنة خلفه، بل يساوي هنا علامة فالوسية، تمثل الفالوس لشخص ما.
- النقطة الثانية، هذا التجلي للموضوع، الموضوع الغائب عن الواقع المألوف، يثير الحصر والمتعة. ولكن عند من؟ في الفعل لا يكون المنحرف ذاتًا كما تشهد بذلك الاندفاعات raptus المنحرفة: إذ يقاد في حركة تعلو عليه وتتخطاه، عند من إذن؟ عند الآخر الكبير، ولكن كالمعتاد يصير المُعِين آخرًا صغيرًا له، وعنده سينتج الحصر أو ستظهر المتعة –والانقسام. هكذا يقول لاكان: المنحرف يبحث عما "قد يعيده إليه انقسامه من الآخر الكبير"، وكذلك سيرصد بشراهة المظاهر التي تشير إلى نجاح عمليته عند هذا الآخر الصغير، وهذا الشاهد يمكن أن يفترض، على سبيل المثال في الشارع عند منحرف الملبس، ونعرف حالات حيث يستمني الاستعراضي أمام المذبح. ففيما وراء ما نسميه الشريك يُستهدَف بالفعل آخر كبير.
- النقطة الثالثة وهي العلاقة بالقانون وبالأب، وهي نقطة أساسية.
وضعية المنحرف تتطلب القانون، والذي وحده يعطيه اليقين بأن الموضوع المستحضر هو بالفعل الحسن، فبالفعل القانون يحكم المدخل للموضوع، والذي لا يصير موضوعًا طبيعيًا، ولكن موضوعًا بين-قول، قولًا عبر القانون، والذي قد يكون قانونًا دينيًا، قانونًا وضعيًا، بل حتى الشيم الحميدة...وقد جعلنا لاكان نقر بأن الرغبة والقانون هما نفس الشيء: فكلاهما يُكَون الموضوع في العملية ذاتها التي تتناوله في ثقوب اللغة، ومن النظرة الأولى يمكن أن نقابل بين إرادة المتعة عند المنحرف التي تستغل القانون لتستحضر الموضوع، وبين رغبة العصابي في هذا الموضوع الغائب. ولكن يجب أن نكون حريصين، ففي كل الأحوال يكون القانون كلي الوجود في حياة المنحرف، ويمكن أن نشهد ذلك، سواء في روايات ساد أو في حياته.
ولكن وضعية القانون تفترض من منبتها(أو تخلق إن جاز لنا القول) أب، وهي حتى وظيفة أساسية للأب الرمزي- الذي قد يكون الله – موسى – سولونSolon – ليكيرجLycurgue ، أو من نشاء، أب مات منذ الأزل، وحتى القوانين الفيزيائية تستدعي التفكير في إله، ولابد أنكم تذكرون ساعاتي فولتير أو إله أينشتين.
وإن كان الآخر الكبير بالنسبة لنا موقع فارغ، فالأمر ليس كذلك للمنحرف، فالمنحرف لا يتجاهل الأب، ولا يتمسك به كأسم بل على العكس، يؤيده أو يتجرأ عليه، فهو دائمًا "مستدير تجاه الأب"، ويكتبها لاكان Père-vers {نحو-الأب}، وبجهاده لأجل الرب أو ضده في إلحادية نشطة، يجعله موجودًا، إذ يبرهن على وجود واحد ما حي في الآخر الكبير. ولسنا هنا بإزاء الأب الفرويدي الميت، أو الفراغ المبني للاهوتيين، إنه أب حي هو من ينظم القانون والمتعة وهو الذي يطالب بالتضحيات.
يمكننا إذن الاقرار بأن إيتيقا المنحرف فيما يخص مخطط الأمة، الذي لا يخشاه، تنطوي على ألا يتناول منه إلا الفتات لكي يؤجج العلاقة بالمتعة مستغلًا القانون، وقد يكون ذلك بصفة خاصة في الحياة الثقافية والسياسية، وربما تكون هذه وظيفة أساسية للحالة الطبيعية المنحرفة التي وجدت دائمًا مكانها.
إذن فسؤالي الأول هو عن إمكانية وجود إيتيقا منحرفة، والذي أجاب عنه لاكان، فما يبدو لي، بالإيجاب، ومن ثم أطرح سؤالي الثاني، وهو معني بما يمكن أن تكون هذه الإيتيقا المنحرفة، علمًا أن العلاقة بالقانون، بالممنوع، وبالموضوع، قد تطورت واستمرت في التطور، هذا وقد جلب لنا شارل ملمان إجابات وآخرون أيضًا حذوا حذوه، ولكن هنا أريد ببساطة لإستخدامي الشخصي أن أحاول إعادة صياغتها بإعادة تناول نقاطي الثلاثة:
- الحضور: فاليوم الموضوع المرغوب حاضر، ولم يعد مقررًا بأخيولة تنظم ندرته واحتمال ظهوره، بل على العكس فإنه صار بضاعة، وصار متعددًا، ووفيرًا، إنه يأتي ليسد الفتحات الحافزية. وهو لم يعد يصنع بُروزًا في المشهد بل على العكس صار لاثوز lathouse أي أن كينونته كموضوع بالمعنى الذي يهمنا صارت محجوبة، فهو يستحضر طوعًا كعضو إضافي، ليس مرتبطًا بشكل أساسي بالمدير الفالوسي الذي قد يسمح بتفسيره في شكل جنسي.

- الانقسام الذي يديره هذا الشكل من الانحراف ليس هو نفسه، بل عوضًا عن ذلك، وعلى العكس صار الأمر متعلقًا بحماية الحصر، ولكن مع مشروع راديكالي لتشكيل ذات جديدة.

- العلاقة بالثالث تطورت: أولًا لأنه قد نتج انزلاق من القانون إلى المعيار، وسوف أعود إلى ذلك، فالأمر يتعلق بانتاج ذات كلامها قد يكون بلا عاقبة شرط أن تبقى موجودة في غلاف المعيار.
ثم لأن الرب الأب، ذلك الذي يقع المنحرف في صراعٍ معه، أستبدل بأسطورة حديثة (والتي آمنا بها جميعًا، سواء بشكل ضمني أم لا) والتي هي الإله تقدم، والتعبير موجود بالفعل عند بودلير، فضلًا عن أن المتعة كانت شيئًا يُفترض وجوده خلفنا (العصر الذهبي أو عدن أو الجنة الأرضية) ولا يمكن لنا أن نفوز بها إلا كذكرى تبتعد...لكنها منذ الآن ستصير أمامنا. أما الريبة فتأتينا لا من زيف ولكن من هشاشة الإله الذي أيدنا أثناء مئتي عام والذي له وجه آخر، مثل جانوس، والذي هو الإله رأس المال.
ثم هناك الخطر المدرك مرات عديدة في القرن العشرين، من عودة أب جديد، الطاغية، أب-جديد néo-père ذلك الذي ننتظره والذي قد يأتي فيضع الأشياء في موضعها في المتعة وفي القانون.


إن إيتيقا المنحرف "الكلاسيكي" قد تهم الحاشية أو تشغل الثقافة أو قد تشعل أيضًا الحرب المقدسة.
أحد مرضاي، استعراضي، رب أسرة طيب مر بأزمات يستعرض فيها أمام بائعات، إنه لا يتعرى ولكن يدير عينيه علانية نحو عضوه الجنسي المخبأ بالملابس، ثم يسترعي نظر البائعات المنفردة، بشكل يصيبهن بالخوف. وبمجرد ما يهاتفن الشرطة يغير المحل، وقد يستمر في فعل ذلك لأيام عدة مع تعاطي قدر من الكحول، ويُقَدْم الخروج من الأزمة من خلال حل تناسلي: فالمريض المنهك على مدار هذه الأيام المتواصلة يستمني ومن ثم يمكن له أن يعود لمنزله، والحالة ليست فقط شيقة للغاية ولكنها مناسبة لتوضيح المحكات الثلاثة:
-يوجد ظهور للموضوع-نظرة، مع تفسيره الفالوسي
-يوجد الحصر من الآخر الذي يصدق على فعله، مع انقسامه الناتج (نحن لا نستعرض أمام حيوان ولكن أمام شخص ما من المفترض اهتمامه بهذا الذي يتم استعراضه).
-الجانب الانتهاكي هنا واضح فيما يخص ما نسميه السلوك الحسن، حتى وإن لم ينتهك قانونًا وضعيًا، لأنه لم يتعر، وهو يفترض رابطًا مع البائعات، كجماعة مجحودة متمركزة حول الفالوس، وكمبدأ، وهو ما يبرهن عليه التعدي إن جاز لنا القول.
-وفي كل الأحوال، يجب أن نتخلى عن الفكرة المتضمنة في كتاب كرافت-إيبينج Kraft-Ebbing بأن الإنحراف مرتبط عن قرب بما هو تناسلي، وحتى هنا: التناسلي هو أمر ثانوي، فالمريض لا ينتصب أثناء الأزمة، والاستمناء غرضه تخفيف التوتر الحاد الذي يصعد فيه. فالمنحرف يسهر على متعة واحد ما في الآخر الكبير، ومريضي يفعل ذلك في أزماته، على طريقته، قبل العودة لأسرته.
وللمنحرف مكانة يحتلها في الثقافة، ويمكننا القول أنه في مجتمع تقليدي مستقر، أيًا كان، فإن المنحرف يقتصر على وضع القانون في المقدمة، في النهاية بالتجرأ عليه، بل أيضًا قد يبدو كبطل، جيل دو رايGilles de Rais المحكوم عليه بالموت لقتل مئات الأطفال كان متبوعًا بحشد من الدموع عند إعدامه، وساد شهيد من موقعه المنحرف والذي له سيراته المقدسة، ولا يمكن تجاهل مسيء[ساحر نساء-دون جوان] أشبيلية المنحرف الواضح مع ذلك، الذي يذهب إلى حد إيقاظ تمثال القائد، وإن كنا ممتنين مع ذلك لهما لإيقاظ أحدهما للآخر، إذ يُلمع كل منهما الآخر: المتعة والقانون.
توجد هذه الطريقة بوضع القانون في المقدمة–والأب المرتبط به- وذلك عبر مناجزة مفردة، كما توجد طريقة أخرى لربط القانون بالمتعة، والتي تهدف إلى جعل الأب موجودًا، ألا وهي الحملات الصليبية العتيقة، أو الجهاد الحديث. وسأقول كلمة عن ذلك فيما بعد.
ولكن بصفة عامة، تتخذ إيتيقا المنحرف مسارات أكثر سلامًا، أريد تقديم، وذلك ليس دون قليل من الاستفزاز، ثلاث: التعليم، الإبداع الفني، الحقيقة.
أما التعليم فهو ميدان واسع للمناورات بالنسبة لإيتيقا المنحرف لأنه ينطوي على إدخال، في رأس الطفل أو التلميذ أو الطالب، شيئًا ما من نظام معرفة connaissance تعدل هذا الطفل، أي شيئًا ما من القانون، ومن الأب الحقيقي والفعال، الذي يعارض معرفته اللاواعية savoir، وبالتأكيد يتعلق الأمر، في جسد الطفل، بتعديل نظام المتعة، أو على الأقل بتوجيهه.
وفضلًا عن ذلك تؤكد لنا العيادة أن المنحرف يمكن أن يربط بينه وبين وضع المعلم.
- توجد معطيات متنوعة، بالتأكيد، فيما يتعلق بالتعليم الديني أو العلماني. ولن نتكلم عن أب شريبر.
- يوجد هذا النوع الخاص من الرواية الشبقية التي هي رواية التلقين، النوع الذي تكون "الفلسفة في المخدع" جزء منه، كما توجد كل الأخيولات الشبقية التي تضع فضلًا عن ذلك المدرس أو المدرسة في المشهد مع سوطه.
يقول لنا لاكان ذلك في "كانت مع ساد". لقد افتقد ساد أثرًا كان سوف لا يقدر بثمن: إذ كان يستطيع أن يبين أن "العَجْز المحمود" للرغبة المعلِمة هو ما يُنتج التعليم، وقد تناول شارل ملمان هذا في إشارة ساخرة، مثيرًا التوغل الناعم الذي تؤيده تربيتنا الحديثة الهادف قبل كل شيء إلى عدم صدمة الطفل.
والمدرسة اليوم تعطي "للتعليم الجنسي" أهمية كبرى، بينما كان لفترة طويلة مجالًا خاصًا ملقًا على عاهل الأسرة، وكم كانت قصة الأولاد الصغار الموجودين في الكرنب، والبنات الصغيرة في الورود ذات شاعرية غامضة، مثلهن تمامًا مثل قصة طائر اللقلق التي تدع الطفل يفكر، بينما النطفة الحيوانية الصغيرة تحد كثيرًا من تفكيره. ويمكن لنا الاهتمام باسم وزارة، التي لم تعد (منذ هريو Herriot وبنوايا ممتازة) وزارة التثقيف العام، ولكن وزارة التعليم القومي، "تعليم" حيث نفهم السير على خطى القانون والزعيم، وعلى أية حال فإن تدريس تاريخ فرنسا على طريقة لافو Lavaud كان لوقت طويل بغرض تقديم البطل القومي، وليس بلا انجرافات منحرفة.
والولع الجنسي بالأطفال صار الشكل الوحشي للمعلم، إنه يجعل منه بالفعل معلم المتعة، وقد كثر الحديث مؤخرًا عن جابريل ماتسنيفGabriel Matzneff ، المؤيد بكل المثقفين، وإن لم يمنع من وجود كتاب آخرين، توني ديفيرTony Duvert ، على سبيل المثال في مطبوعات Minuit، وكذلك مجلة Recherches الخ. ممن لديهم الكثير من القراء الذين ليس كلهم من المولعين بالأطفال، إذ يوجد بالتأكيد فضلًا عن ذلك أشخاص يعتقدون أن هاهنا قد توجد المتعة الحقيقية لأنها ممنوعة تمامًا، بينما تقريبًا كل شيء مسموح.
وهنا المنحرف يكون محور اهتمام الجمهور، وإن كان ذلك في شكل سخط، ويعزز القانون من منع رد الفعل تجاهه.
قلت أن المنحرف وجد موقعه منذ زمن طويل كجالب لتجديد المتعة، وهو معني أيضًا بمجال كبير آخر، ألا وهو الإبداع الفني الذي يؤجج المتعة بواسطة التسامي، ودائمًا، كحدٍ أدنى، باستعراضٍ لموضوع، مؤثر على ذلك الذي ينظر، يمثل انتهاكًا فيما يخص الأب والقانون.
إن العمل الفني هو عادة أكثر ما يبتذل في الخطاب الثقافي الذي يقارنه، يضعه في تكافؤ مع موضوعات أخرى، يضاعفه في تكاثرات، ولكن يبقى أن العمل الفني منذ البدء هو عرض للشيء في شكلٍ متسامٍ، استعراض للشيء، إن أردنا القول. يقول ريلكه "الجميل هو بداية الفظيع"، وعندما "ينجح" ينتج أثرًا مذهلًا على المشاهد، يأخذه ما بين المتعة التي يمنحها إياه وذروة الحصر بأن يرى شيئًا ما ها هنا، شيئًا ما يطفو؛ شيئًا ما سيتلاشى.
تحدثت عن استعراضٍ لحضور أساسي، وعن الأثر على المشاهد، كذلك يمكن أن أثير، كي استمر في نفس السياق، موضوع الرب الذي يظهره العمل الفني ("لأنه هو الله خير شاهد...").
على أية حالٍ للفن علاقة بالانتهاك كامنة فيه، فالفن مشيدٌ على نزاعٍ مع القوانين المؤسسة في الحقبة السابقة عليه، وسرد هذه المعارك يشيد تاريخه، فعلى سبيل المثال في الموسيقى من السهل تبين أن كل تقدم قد شيد بترخيص منتزع على حساب نقطة من القواعد المتناغمة للحقبة السابقة، فالعمل الفني الجديد يُكَون القواعد المعتمدة، ولو بانتهاكها قليلًا ، وبتسليطه هكذا الضوء على الموضوع المخالف للمألوف، موضوع صوتي هنا، المشيد بالانتهاك ذاته.
ناهيكم عن التراتيل أو عن الأغاني الوطنية، المحياة من نغمة ومن إيقاعٍ يهدف إلى إثارة حماس المغنين من خلال استحضار الأب، الرب، الأمة، عبر النغمة أو الإيقاع نفسهما.
ولكن في الأكثر اعتيادًا، في السينيما، وليس فقط في أفلام الرعب، نجد قسوة واستعراضًا جنسيًا لا يبلغان أبدًا إلى الاستعراضية التقليدية، فلنتناول أفلام تارنتينو Tarentino أو كيشيشKechiche : نقدرها بلا تحفظ لجرأتها، لقدرتها على إمتاع المشاهد –أو المشاهد، ولكن هل نريد أن نعرف حقًا أن كنا سنستمتع بمذابح شارل-إبدو أو الباتكلان في أفلام تارينتينو؟
أثيرُ مجالًا آخر؛ وهو ما قد يمثله الصراع من أجل حقيقة قد تكون كلية Toute، مع المشاعر التي نعرفها، بما في ذلك الموجودة في مجالنا، فمعركة المنحرف، في وسائل الإعلام، وفي الحياة السياسية، قد تحيا بواسطة وجدان يقود إلى شمولية للحقيقة، وهو يرحب عن طيب خاطر بأن يصير مروجًا لهذه الحقيقة الكلية. إن التبشير، الترويج، لعقيدة هو في الأساس من الإيتيقا الخاصة بها، هذه الحقيقة التي يقول لنا عنها لاكان في "الوجه الآخر" أنها أخت المتعة، سنفرضها ونبحث عن قبولها في نهاية الأمر بالنار والدم.
تكلمنا إذن عن مجالات ثلاث على سبيل المثال، حيث يكون الوضع المنحرف –الذي يؤجج المتعة في علاقة بالقانون وبالأب- ظاهرًا.
ولكن ما هي ملامح هذا الأب بالنسبة لنا نحن المعاصرون، الأب الذي يقطن في الآخر الكبير والذي يعني بالإمتاع؟
يوجد الأب الخالد. نحن نعتبر مع قدر من الازدراء، بل حتى مع قدر من الاحتقار لكهنة ديانتنا القديمة التي تلاشى مذهبها، أنه لم يعد يمنح متعة، والاحتقار لأنهم قد استبدلوا (إنه لاكان الذي يقول ذلك في مكان ما) العقيدة بالأعمال الجيدة، إن نسخة-الأب père-version (=الانحراف) الذي قد ضمن القانون والمتعة لم يعد أكثر من متقاعد متهم بالولع الجنسي بالأطفال، فكرة شاحبة سلبية وفاضحة عما كانت عليه الكنيسة في علاقتها بالمتعة، ذكرت الحملات الصليبية، أما الجهاد فيبدو لي نوعًا مضطربًا من استحضار الأب والمتعة، ولكن يجب إعادة تناول ذلك بشكل مطول.
التقدم إله جوهري، وديننا الذي يؤجج علاقتنا بالمتعة هو على الأحري ذلك الذي للإله تقدم، إنه أفاتار الأب، سوى أنه يعد بالمتعة في المستقبل.
ومنذ الثورة –البرجوازية وفقًا لكلام ماركس، والمرتبطة بالرأسمالية- والقوانين دائمًا متهمة بمحاباة خصم سياسي، إنها تتوالد، وتصبح أقل وضوحًا، وتفقد الصلة مع المباديء المؤسسة، هل يمثل هذا صعوبة للمنحرف؟
يبدو فاضحًا قليلًا القول أن التقدم هو بالفعل خيال معاصر يشهد بتغيير للنظام فيما يخص نسخة-الأب père-version[ الانحراف] التقليدي، مع ذلك يبدو لي أن هذا هو ما يقوله لاكان في الإيتيقا، فالإله-تقدم يقدم نفسه كإرادة في الآخر الكبير تُوجه التاريخ "في الاتجاه الصحيح"، وهو يعد بمتعة ليست خلفنا، ولكن أمامنا، وعلى العكس مما قد نظن فالفكرة لا تأتي من تلقاء نفسها كما أنها حديثة العهد، وإن كنا نجد لها مخططات حذرة في عصر الأنوار إلا أنها انطلقت في القرن التاسع عشر مع الاقتصاد الرأسمالي، كما يبدو وجود ما يؤيد ذلك في النشوئية، والتي جعلت من الإنسان زهرة الخلق.
وننفضح عندما نعلم أن ديانات معينة تدرس مذهبًا ذو أصول مبنية على نصوص مقدسة، بينما نعرف أن النظرية النشوئية لن يكون لها الكثير من النتائج بالنسبة لحياة تلميذ غير متخصص إلا نشوء نجوم مستعرة، والفضيحة تأتي من اعتقادنا في هذا التقدم، الذي هو مجروح.
وفي نطاق آخر فإن وحي هذا الإله يستعرض نفسه في انطلاق الحضارة التقنية والتجارية، وتشهد فيتيشية البضائع، التي تُقَّنِع قيمة استخدامها كينونتها المخفاة (إنه معنى لاثوز lathouse) التي هي قيمتها التبادلية، التي تشهد بمساهمتها للإله رأس المال- الذي هو واقعي تمامًا في أعمالها.
إن دين التقدم وعقيدته السياسية الغامضة، "التقدمية"، التي حلت محل الصراع الطبقي، الأكثر عيانية والأكثر تحديدًا، هي اليوم لحسن الحظ عقيدة معتدلة... وقد استبدلت اليوم بعلم البيئة الذي لا يؤيد ألوهية المادة مثل فلاسفة القرن الثامن عشر، ولكن عوضًا عن ذلك حضور الإله طبيعة الذي يجب الحفاظ عليه، ودعمه والذي قد يؤَمن متعة مقننة ومعتدلة.
والريبة التي تأتينا ليس من زيف ولكن على الأحرى من هشاشة هذه الأسطورة الدينية التي دعمتنا لوقت طويل.
يوجد طاغية
إنه ملمح، مهدد، للأب، يمكن أن تسوقنا إليه إيتيقا المنحرف: في إنبثاقه على شكل طاغية، المنتظر الجديد، الذي يأتي في النهاية ليضع الأشياء في نصابها، والذي يعيد توزيع كروت المتعة لأجل لعبة جديدة.
لكي نقول الأشياء بشكل مخفف، فلنعد إلى الأدب مع موضوع الجزيرة المهجورة لروبينسونRobinson ، الجزيرة المهجورة كانت قد ظهرت بالفعل في "الكريتيكون" لجراسيان Gracian ولكن لننطلق مع ديفو Defoe، إن ما سيصنعه روبينسون، في مواجهة الطبيعة المتوحشة، من إعادة خلق الحضارة واحتمالية سعادة منظمة، مؤكِدة جنين المجتمع الذي تؤسسه الجمعة. إلا أن ما يفتقد في هذا العالم المنظم هو المتعة، وقد عرف كتاب أن يجدوا انحرافات متنوعة لمعالجة هذا الأمر. وإعادة تناول هذا الموضوع هو إعادة تقديم للقانون، أو أب جديد يجب أن نضحي من أجله، فعند تورنيه Tournier يوجد مِحرم مع الأرض-الأم، معاقب بهزات أرضية إذا كنت أتذكر جيدًا، وعند جولدنج Golding على سبيل المثال، على جزيرة مجهولة حيث يسعى الأطفال المنبوذون إلى تأسيس مجتمع معقول، إنهم سيعيدون تقديم إله يوصي بالتمييز العنصري، بالقتل والمتعة، و"بعل الذباب"، صاحبات الجلالة الذبابات! لم لا؟
نعتقد أننا نعرف –على أية حال هذا هو ما نكرره خلف لاكان، والاعتقاد فيه ليس نفس الشيء على الإطلاق- أن الآخر الكبير هو موقع خالٍ، وهذا بعد آلاف الأعوام من توحيدنا الذي أفرغ عوضًا عن ذلك مكان الإله. إن تعدد الآلهة بالتأكيد كان أقل حاجة لأن يبرز أب سماوي، لأن الألوهية كانت مقسمة، واضحة، قريبة جدًا، ليست حقًا مرتبطة بالقانون ولكن طالبة أضحيات، هذه الآلهة في الواقعي ضاعفت كل متعة، وربما يرتبط الانحراف في الأساس بما يتركه لنا التوحيد على هيئة فراغ.
ماذا يفعل في مواجهة الإيتيقا المنحرفة؟ إنتظار أب يأتي من الخارج؟ من "الشاطئ المقابل". نقضي حياتنا نخشى خطرًا نأمله، ذاك الذي يأتي من الخارج ليدمر كل شيء ويضع بدلًا منه قانونًا جديدًا؛ متعة جديدة؛ أو دينًا جديدًا، نوتي عظيم جديد؟ والثورات لا تفعل سوى إعادة بعث الأب، ولا يكون ذلك إلا بسبب أنها تأسس جهازًا جديدًا من القوانين، ومشروعية الفاطر، بالبنط العريض، تُدعم عادة بمذبحة جماعية، مفترضة دائمًا صعود أب آخر، اليهود على سبيل المثال؛ وفي فترت زمنية أخرى الأرستقراطيون؛ الكولاك؛ الأرمن أو المثقفون، وقد كانت التضحية دائمًا أفضل وسيلة لإيجاد هذا الأب وإثبات من هم أولاده الحقيقيون.
يمكن أن نأمل أن إيماننا الراسخ في المتعة لن يقودنا إلى حلول منحرفة، فبالفعل الحلول التقليدية بإزالة المتعة من المحتمل أنها إستحالت أكثر صعوبة بواسطة مقامٍ جديد للموضوع، وهو ما يحمينا ليس من الكفر (المنسوج دائمًا بالإيمان) ولكن على التحديد من "سأم" اللاهوتيين، الذي هو اسم آخر للإكتئاب.
  
إيتيقا المنحرف المعاصر

وإيتيقا المنحرف في حياتنا المعاصرة؟ كما في روما التي يصفها فرويد، توجد آثار صروح قديمة بقيت، فالانحراف التقليدي حاضر دائمًا، ولكن نتجت تغيرات كبيرة في نظام الموضوع، كما أن إيتيقا المنحرف تطورت. وربما يجب إعادة تناول السؤال عن خطابٍ جديد يكون ذاك الذي للانحراف. وسأحاول استخدام محكات المنحرف التقليدي لأبرز إيتيقا جديدة منحرفة تسمح لنا بمتعة جديدة باستكمال الآخر الكبير والرغبة في يكون مسكونًا.
المحكات الثلاثة إذن؟
فلنعد إلى البداية: حضور الموضوع. يجب القول أن نظامًا جديدًا لعلاقتنا بالموضوع اتخذ موقعه، فهل حقيقة يمكن اليوم استحضار موضوعِ "لا يجب" بينما نحن مطمورون في موضوعاتٍ متاحة داخل مشروعٍ كوني، كما قلت لسد الثقوب الحافزية.
إن الرنين الجنسي الحساس جدًا عند المنحرف التقليدي لم يعد في المقدمة، والموضوع لم يعد يقدم نفسه مستنيرًا بالاستعارة الفالوسية، ولكن باعتباره لاثوز lathouse، وأنا هنا أؤكد على هذه الكلمة التي أخترعها لاكان في "الوجه الآخر"، وقد كتب جون-بير لوبران Jean-Pierre Lebrun مقالًا جميلًا في هذا الشأن، فالكلمة مصدرها الفعل اليوناني lanthano أخبئ، وهي من نفس جذر aletheia ولكن أيضًا من كلمة Léthé ، إن اللاثوز عوضًا عن أن يقدم نفسه كموضوع الرغبة... يجعله يُنسى لأنه يقدم نفسه لا كالنقص الذي يحيينا، محيلًا إلى الخصاء، ولكن على العكس كعضو تكميلي. لقد أثرت ماركس، و مشاركة البضائع، فيما وراء قيمة الاستعمال، في دين رأس المال وعمله الخاص.
حضور الموضوع، إذن
- بعد أن كان نادرًا، لم يعد فقط متاحًا بل أصبح غزيرًا، غازٍ، متوالد.
- مدخله كان منظمًا بالأخيولة المتفردة عند كلٍ، أصبح يقدم نفسه كموضوع للرغبة عام، بل حتى كليًا، "للجميع" إذا جاز لنا القول.
- كان له وجه مستدير نحو الماضي، في سيناريو مرسِل نحو "مرة أولى"، وأصبح الآن مستديرًا نحو المستقبل الذي سيجعله أكثر إتقانًا، أكثر كفاية، أكثر كفاءة.
- كان يلقي الضوء من الداخل على صورة القريب، على خلفية من الغياب، العجيب، المدهش، مضفيًا رونقًا على الشخص المرغوب، هذه هي طريقة المنحرف القديم في محاولة الاستخلاص. أما الآن فقد أصبح موضوعًا لمطالبة من المشابهين مبنية على أساس المساواة في الحقوق اللازم توافرها، بناء على إستئصال تقني للغياب.
- العلاقة بالفالوس التي كانت أساسية في تأصيل الموضوع كما لو أنها محيت -انحطاط لاهوتي كما يقول لاكان في مكان ما بسخرية- فالمتعة الفالوسية لم تعد المتعة القصوى، إنها متعة من بين أخر، وعلى التوازي أصبح الفالوس معتادًا في فحش البورنو، الذي أصبح يجد فضلًا عن ذلك صعوبة في إيجاد صور جديدة لا تكون ركيكة. الجنسية وبلا غموض...
- إن ما هو مبحوث عنه لم يعد "الموضوع المبتغى وأنت على عكس كل ثرثرة بشرية" كما يقول الشاعر، هذا الموضوع الذي أعطانا المنحرف منه نسخة فالوسية أصبح ببساطة موضوع الواقع التجاري، مع اللاثوز التي يقترحه علينا، ومن هنا يمكن للعقار أن يبدو الذروة القصوى للموضوع الذي يغمرنا: الموضوع الواقعي؛ منفصل عن الجنسية؛ منفصل عن القانون،ربما ليس بعد، ولكن بالتأكيد يمكن أن نتوقع ذلك.
2) النقطة الثانية، التأثير على الآخر الكبير، المنحرف يستهدف الآخر الكبير، هذا الآخر الكبير الذي سنقول عنه أنه بالنسبة للمنحرف يقطن الشيء. ولكن هذا الذي يضعه في مركز إيتيقا جديدة تريد أن تحي المتعة، هو شيء ما يبدو لي جديرًا بالملاحظة، إنه الأمل المتجدد في التعليم –وانتصار خطاب الجامعة.
لماذا خطاب الجامعة؟ فلنلاحظ أنه الخطاب الفعلي الوحيد الذي يعطيه لاكان أسمًا جماعيًا (على عكس الخطاب الهستيري، والسيد، والمحلل بل وحتى خطاب الرأسمالي).
وفي مكان الحقيقة توجد S1 التي للسلطة، مختبئة تمامًا وملتوية تمامًا كما يقول لاكان. وفي وضع الفاعل توجد S2، وهنا نلاحظ ما يلي:
- تقترح ويكيبيديا معرفة مجهولة، دون أصل، دائمًا متاحة، قادرة دائمًا على أن تكتسب دون طرح، "مجانية"، يمكن أن تقدم نفسها كمعرفة كلية ثغراتها المحتملة دائمًا في سبيلها إلى أن تردم.
- وعلى مخطط الأخلاق العملية لدينا الصحيح سياسيًا، وهاهنا أيضًا قواعد دون أصل، ويبدو لي هذا هامًا جدًا لأننا يمكن أن نكافح ضد أخلاق نعرف من أين أتت: أخلاق أبيقورية؛ رواقية؛ كاثوليكية؛ ثورية؛ "أخلاقنا وأخلاقهم"، ولكن كيف يمكن مجابهة أخلاق تقدم نفسها كنابعة من ذاتها، مصاحبة التقدم، ومجمعة نفسها في واجبات النحن؟
- التأثيرات على الآخر الكبير تنظمها وسائل لاحظها بالفعل فيكتور كليمبيرير Victor Klemperer في LTI: سنقيد باستخدام مفردات جديدة ونحو جديد لتوجيه الأشخاص، في الاتجاه الذي يجب، ولأسباب أخلاقية.
وفي مستوى أ الصغيرة توجد ذاتٍ جمعية عوضًا عن الآخر الكبير، فالأمر يتعلق بتصنيع وإعطاء شكل لموضوع الرغبة أ الصغيرة بغرض إنتاج ذاتٍ جديدة، إن جاز لنا القول.
إن التقدم، نسخة-الأب هذا، هو أيضًا إله طيب، طيب لدرجة أنه يبدو بلا أي متطلبات، أنه يريد ببساطة أن يظل كل أطفاله أطفالًا، يستهلكون بهدوء، موضوعات، جنس، بلا أثم لأنه لم يعد يوجد لا أثم ولا قانون، فقط محركات إقتصادية، وهكذا يعتقد كلٌ في حقه في متعته الصغيرة الخاصة، ويمتنع عن مشاركتها مع عدد معين من الآخرين الصغار، لكي يؤصل هذه المتعة بوصفها المتعة الجيدة في تعددية للمرايا.
إنني أمزح، بالطبع، ولكنني أريد أن أبرز أن الآخر الكبير المنوط بالإمتاع أو بجلب الحصر والذي له أهمية قصوى عند المنحرف التقليدي يمكن دائمًا أن يكون إله عقيدة مضمرة، كما أنه يطلب أيضًا تضحيات، وكل من لن يطيع كلماته الآمرة التي بلا أصل هم أيضًا محرومون من الكلام، وسأعود لذلك بعد قليل.
3) وبنفس الطريقة، فإن القانون قد تطور بعمق.
القانون الإنساني، هذا المتعلق بالحقوق، هو دائمًا احتوائي، وذاك الذي يتجرأ عليه يجعله موجودًا، وإلا سيسقط القانون في الإهمال، فبانتهاكه يستمر في أن يمارس وفي احتواء هذا الذي يمارس عليه، حتى عقوبة الموت، وهذه مفارقة، تبقي المتهم في المجتمع الإنساني، فإذا كان قد دفع دينه للمجتمع فذلك لأنه قد بقي تحت مظلة القانون، وسواء كان ذلك في المادة ٦٤ أو في وضع مكافأة على الرأس، أو في النفي الذي يستبعد كما كان يحدث عند الأقدمين فإن الشخص يبقى تحت مظلة القانون حتى وقبل أي شيء إذا كان قد تجرأعليه. إن التعدي عليه لا يعني الخروج منه ولكن تأكيده.
ومن جانب آخر فإن القانون مُطَعّْم دائمًا من واقعي مدخله الوحيد الأسطورة، وهو ما يعطيه نوعًا من الثقل، وحتى الأنظمة الثورية أو الفاشية تخترع للقانون هذه العلاقة بالواقعي، وهو ليس نفس الوضع في المعيار، حيث يكون الأداء مختلف تمامًا. وتفترض "نظرية المعايير"، وهو عنوان معالجة شهيرة لهانز كيلزن Hanz Kelsen ترتكن على أساس نظري جديد للحقوق؛ نظامٍ أساسي للمعايير، نوع من الهرم القانوني لا يرتكن لا على التقاليد أو الدين ولا على ما نسميه الحق الطبيعي الذي يفترض مفاهيم عن طبيعة الإنسان وغايته في العالم، ولكن يرتكن على توافق مكتسب في الحالات الجيدة بواسطة مناقشات برلمانية، وهنا يبدو لي أننا نستطيع بالمثل تمامًا ابتكار نظام من المعايير بدءًا من "أيها الفرنسي مطلوب مجهود إضافي لنكون جمهوريين".
وتأثير المعيار لا يبدو أنه للاحتواء ولكن للاقصاء، فمن الواضح أن ما هو خارج المعيار ليس "خطأ"، إذ قد لا توجد جنحة تستحق العقاب، ومع ذلك طالما كنا تحت سيطرة المعيار فلا وجود لحق التعبير ولا للوجود، ماذا يمكن أن نفعل، فهو بلا عواقب، أليست تلك حقيقية حتى فيما بيننا نحن المحللون؟
إذن كيف نقاتل معيارًا ليس له أصل، يقدم نفسه...كطبيعي، ولكن الطبيعة أليست واحدة من آفاتارات الإله المنحرف؟
كيف نستنتج؟ لقد حاولت أن أبين أن خطى المنحرف هي في الأساس إيتيقية.
- بأنها كانت لفترة طويلة لإحياء المتعة بجعل الأب موجودًا في الآخر الكبير وبإضفاء صبغة جنسية على موضوع الرغبة، وباستحضار الفالوس والأب والقانون هنالك يتردد صداهم، وهو ما قد ينتج عنه مشتقات خطرة.
- وأنها قد تطورت مع انطلاق الرأسمالية حيث اتخذ التقدم موقع إرادة طيبة في الواقعي، حيث انزلق القانون في اتجاه المعيار وحيث لم يعد للموضوع تلك الصبغة الجنسية وصار يتعدد ويستقطب في اتجاه مستقبل حدوده معاشة أكثر أو أقل بغموض كقابلة للتراجع بشكل لانهائي.
إن إيتيقا المحلل النفسي، إذا كانت حقًا في الخطاب التحليلي، وإذا كان الموضوع الذي يسببنا هو موضوع علماني، فهذه الإيتيقا لا يمكن إلا أن تقابل الفضلات منفصلة عن الجسد في نهاية الأمر.
الأب هو خيال في مقصد بنتام، خيال للغة، ويكفي أن نحدد أي دور يلعبه هذا الخيال، أو قد لعبه في المسار الفردي للمحلَل.
لكل منا علاقة بمتعته، نحن نحب الفن، التعليم، الحقيقة العناصر التي وضعتها للتو دون استفزاز في المجال المنحرف، سواء كان لنا أم لا التزام سياسي. ولكن كمحللين نفسيين، نعرف أن الآخر الكبير هو موقع فارغ، وأن ليس لنا من اللاوعي إلا كتابة ستبقى قراءتها أبدًا ليس-كل؛ وأن ما يجمعنا هو ثقب مشترك، وليس سلالة سابقٍ معني بإظهار حضوره بالتضحية ومنه نستعير إرادة القوانين.