عناصر تمهيدية
تنقسم أعمال بيون إلى ثلاث فترات:
- الأولى في الأربعينيات والخمسينيات حيث كان بيون يعمل طبيبًا نفسيًا ومحللًا نفسيًا شابًا، وكان يعمل مع المجموعات. وسنرى لاحقًا مدى خصوبة هذا العمل.
- أما الفترة الثانية، فهي تدور حول التنسيقات النظرية في الستينيات؛ حيث كان شديد النشاط في الرابطة البريطانية للتحليل النفسي في عيادة تافيستوك (Tavistock Clinic) بلندن، كما أنه ركز على الصياغة النظرية.
- ثم تخلل ذلك فترة إقامته بكاليفورنيا التي تنتهي بمذكرات المستقبل (Mémoires du futur/A Memoir of the Future).
وقد نُشر له:
- 1961-1962 خبرات مع الجماعة (Experiences in group)
- 1962 التعلم من الخبرة (Learning from experience)
- 1963 عناصر التحليل النفسي (Elements of psychoanalysis)
- 1965 التحولات (Transformations)
- 1970 الانتباه والتأويل (Attention et Interprétation)
ثم تخلل ذلك فترة إقامته بكاليفورنيا التي تنتهي "بمذكرات المستقبل" (Mémoires du futur/A Memoir of the Future) ، وهي فترة من التفكير الانفرادي لها الأسبقية على النشاط الاجتماعي الذي يكتمل فيه عمله.
- 1961-1962 خبرات مع الجماعة (Experiences in group)
- 1962 التعلم من الخبرة (Learning from experience)
- 1963 عناصر التحليل النفسي (Elements of psychoanalysis)
- 1965 التحولات (Transformations)
- 1970 الانتباه والتأويل (Attention et Interprétation)
- 1975-1979 مذكرات المستقبل (A Memoir of the Future)
- 1992 تَفَكُّر (Cogitations) (وهو عمل نُشر بعد وفاته)
بالإضافة إلى مجموعات من المقالات:
- 1967 "أفكار ثانية" (Second thoughts)
- بيون في تافيستوك (Bion à la Tavistock) - وهو كتاب يجمع حلقات بيون الدراسية المختلفة في فرنسا نشرته دار إيثاقا (Ithaque) عام 2010.
- الحلقات الدراسية الإيطالية (Seminari Italiani).
- مقدمة خوسيه لويس جويينا (José Luis Goyena) لكتاب "بيون في عيادة تافيستوك" ("Bion à la Tavistock").
- بيون نظرية للمستقبل (Bion une théorie pour l'avenir)
- مقال بقلم جيه إل جويينا (JL Goyena)
كما أنني اعتمدت على:
- عدة مقالات لجان بيجوين (Jean Begoin)
- وعدة مقالات أخرى بقلم ديدييه هوزيل (Didier Houzel)
- مقتطفات من مؤتمرات نظمتها في باريس "مجموعة دراسات وبحوث التحليل النفسي في نمو الطفل والرضيع (Groupe d'Etudes et de Recherches Psychanalytiques pour le développement de l'Enfant et du Nourrisson - GERPEN)"
- ثم كتاب يضم فعاليات مؤتمر للجمعية الفرنسية للطب النفسي عام 1991 تحت عنوان "و. ر. بيون، نظرية للمستقبل" (W.R Bion, Une théorie pour l'avenir)
- مقدمة خوسيه لويس جويينا (José Luis Goyena) لكتاب "بيون في عيادة تافيستوك" ("Bion à la Tavistock")
- بيون نظرية للمستقبل (Bion une théorie pour l'avenir)
- مقال بقلم جيه إل جويينا (JL Goyena)
إن "فرنسا" لم تستسغ فكر "بيون" بشكل جيد، وهو أمر غير مفاجئ عندما نتذكر "ميلاني كلاين" نفسها التي واجهت - نظريتها هي الأخرى - صعوبات في فرنسا. نتذكر صيغ لاكان حول "الكرَّاشة (السقاطة) العبقرية " (géniale tripière). اكتشفت فرنسا بيون في وقت متأخر، فقط في نهاية حياته عندما أصبحت أعماله معروفة ومترجمة للجمهور الفرنسي في السبعينيات. وبفضل أندريه جرين (André Green) وبونتاليس (Pontalis) حصلنا على الترجمات الأولى. هذا بالإضافة إلى صعوبة فهم أعمال بيون، خاصةً بالنسبة إلى جمهور معتاد على <فكر> لاكان، إلى جانب أنك لفهم بيون تمامًا يجب أن تكون على دراية بالتحليل النفسي للأطفال وبأعمال ميلاني كلاين؛ لأن بيون يستخدم المفاهيم نفسها التي تستخدمها ميلاني كلاين ويقوم بتطويرها وإثرائها برؤيته الشخصية.
ويمكن القول إن المعركة التي وقعت في فرنسا حول لاكان كان لها أثر يتعلق ببيون يخص إعادة تنشيط المعركة التي دارت في المجتمع البريطاني بين آنا فرويد وميلاني كلاين، إلا أنه في فرنسا كانت النتيجة أن حدثت العديد من الانقسامات، والتي يمكن القول بأن المجموعات المختلفة استمرت في الانخراط في حرب مريرة لم تهدأ إلا في السنوات الأخيرة، بينما في المجتمع الإنجليزي أدت المناقشات التي لا هوادة فيها من نهاية الحرب عام 1946 إلى دمج ثلاثة تيارات هي <مدرسة> آنا فرويد، و<مدرسة> ميلاني كلاين و<مدرسة> وينيكوت.
ولكن في المجتمعات التحليلية لا يمكننا أن نحل مشاكل البنوة بشكل كامل، وقد نندم على ذلك ولكننا لا نستطيع تجنبه، خاصة على مستوى المجتمعات التي يكون فيها لعقلية الجماعة "بافتراضاتها الأساسية" ("Basics assumptions") الأسبقية على تقدم/ تطور الفكر. وهذا هو السبب في أن مجالنا (أي التحليل النفسي) لا يمكن توحيده (unifier). ويمكننا القول بالفعل، في إعادة صياغة للعبارة الشهيرة، أن الخلط بين الناس والأفكار يبدو أنه المرض الطفلي للتحليل النفسي.
ومن المأمول أن تقلل أبحاث بيون التي تعتمد على أفكار ميلاني كلاين من هذه الالتباسات بقدر ما يمكن أن تساهم في إحراز تقدم كافٍ في تقنية التحليل النفسي التي يتم التحليل النفسي من خلالها.
مقدمة
لقد جعلني ديدييه هوزيل حساسة بشكل خاص للتحليل النفسي البيوني (نسبة لبيون) عندما أخبرنا في محاضرة في باريس أن النموذج الذي قدمته ميلاني كلاين وخلفاؤها لديه ميزة الاستفادة القصوى من الموقف المكاني والزماني للجلسة التحليلية؛ حيث تتطور ديناميات التحويل والتحويل المضاد. لكن بيون ينضم إلى تيار حديث جدًا من الفكر العلمي الذي يسعى إلى تحرير نفسه من القيود المفرطة للنماذج الذرية وكذلك الميكانيكية لعلوم القرن التاسع عشر.
إن إعادة "ما هو كيفي" إلى مكانته، وكذلك الصراعات وما هو غير محدد هي حاجة بالنسبة للفكر الحديث، وهي حاجة تظهر في مجالات متنوعة مثل نظرية الكوارث لرينيه توم (Réné THOM)، ونظرية الجريان المضطرب، ونظرية "النظام عبر التقلبات" لبريوجين (PRIOGINE)، التي تسعى لإعادة سحر عالم المعرفة من خلال إعادة النشاط العلمي إلى هدف الحوار والفهم وليس التسيد.
الحوار والفهم، هذه هي المهمة التي اضطلع بها بيون، والتي يدعونا إلى اتِّباعها وتجاوز المشاجرات المتحيزة.
ويحمل كتاب نُشر في عام 1998 هذا العنوان:"و. ر. بيون نظرية للمستقبل" (W.R.BION une théorie pour l'avenir) هو عنوان ذو أهمية قصوى، فبيون هو داعية للمستقبل فعلا.
إن بيون لم يترك لنا نظرية ثرية ثراءً استثنائيًا فحسب، بل إنه غيّر وجهة نظرنا تمامًا أيضًا حول العلاج، وحول وجهة نظر المحللين النفسيين، ولكنه أيضًا أتى بمفاهيم هي "أثداءٌ تفكر" بحق. وأعتقد أنه لم يكن ليتنصل من هذه الطريقة في الرؤية والقراءة والتفكير والحلم مما يقدمه لنا باعتباره مادة للتفكير. أليس أن تكون محللين نفسيين هو أن نقدم لمرضانا هذا الثدي للتفكير وتحرير أنفسهم من اضطراباتهم العاطفية؟
أثرى بيون التحليل النفسي بدءًا من إثرائه لمفهوم التماهي الإسقاطي لميلاني كلاين الذي ظهر منذ عام 1946؛ لأنه أكد على دوره الإيجابي والأساسي. كما أنه أعاد قراءة وإثراء دور الوضعين السكيزويدي البارانويدي والاكتئابي.
كما قام بالعمل على مفاهيم وينيكوت، وعمَّق مفهوم "الاحتضان" (holding)، وقدرة أحلام يقظة الأم، وهو ما يسمح لنا بشحذ حساسيتنا للقدرة على التفكير، والتي جعلها نشاطًا أساسيًا (الرابط C أو الوظيفة K) أي رابط المعرفة (Knowledge link ) وهو يدعو إلى "التعلم بالتجربة"، و "القدرة السالبة". لقد جعلنا حساسين تجاه "التغيير الكارثي" و "الرعب الذي لا اسم له" الذي يعيشه الرُضّع. لقد حثنا على أن نعيد التفكير في المفاهيم الأكثر شيوعًا لتغيير الطريقة التي نفهمها بها. فعلى سبيل المثال، عندما يتحدث عن الفكر ونشاطه، فإنه يميز المعرفة المكتسبة عن طريق الاندساس (intrusion) والتي لا تختلف عن "الامتلاك" وتلك التي يتم اكتسابها بصدق من خلال الجرأة على التفكير بأنفسنا (أي بشكل مستقل) وعلى جعل كينونتنا (Etre) تبزغ، فالوجود في الكينونة (Etre) وليس في المظهر (Paraître).
وأضيف كلمة تمهيدية أخرى، لقد غير أيضًا وجهة نظرنا حول العلاقة بين الكائنات وخاصة العلاقة بين الأم وطفلها. وقد أتاح لنا إمكانية التمييز بل وفهم الذهان والعصاب بشكل أفضل دون أحكام مسبقة.
لقد أعاد إلينا ميزتنا الأولى باعتبارنا محللين نفسيين وهي أن نكون متواضعين، وأن نقبل عدم العلم/ عدم المعرفة (ne pas savoir) وأن نكون محللين نفسيين ملتزمين تجاه مرضانا.
أولاً: الأم وطفلها
التماهي الإسقاطي
الأوضاع المختلفة لدى ميلاني كلاين
ولادة التفكير
الأحلام
قبل المضي قدمًا، سنعيد التفكير في نظرية ميلاني كلاين، ولا سيما في مقالتها: "مساهمة في نشأة حالات الهوس الاكتئابي" 1935 (A contribution to the psychogenesis of manic depressive states) التي نتجت أفكارها عن عمل ميلاني كلاين وممارستها لتحليل الأطفال الصغار، حيث أوضحت أن ما يواجهونه لاحقًا لا يوجد إلا لدى المرضى البالغين الذين يعانون من اضطرابات عقلية خطيرة يعانون فيها من أشكال من الحصر الذهاني والإضطهادي والاكتئابي الخطيرة، والتي ترتبط شدته بعنف الحفزات والدفاعات التي تقوم لمواجهتها.
إنه من المؤكد أن الحديث عن الحفزات السادية لدى الأطفال لم يكن مفهومًا، بل إنه كان صادمًا عندما تحدثت عنها ميلاني كلاين في بداية عملها (انظر كتابها "التحليل النفسي للأطفال"). ولكن في عام 1946 عندما تحدثت عن التماهي الإسقاطي، وهو ما سمح بأول محاولات وصف لإحدى صياغات فرويد الذي تحدث قبلها عن التماهي النرجسي، حيث أظهر أنه كان تماهيًا تستحوذ فيها الذات (sujet) على خصائص معينة من الموضوع.
وتعيد ميلاني كلاين تناول هذا المفهوم من خلال الحديث عن شكل اندساسي (intrusive) من أشكال التماهي، عندما يتعلق الأمر بكل من انشطار وإسقاط الحفزات الجنسية داخل الموضوع أو عندما يتعلق الأمر بالحفزات التدميرية. إن التماهي الإسقاطي هو علاقة بالموضوعات الجزئية، التي تنظم تخييلات الطفل في علاقته مع هذه الموضوعات الأولى، في المقام الأول جسد الأم، وهي ما تسميه الوضع السكيزويدي البارانويدي. وهنا يتم اختبار الموضوع الجزئي على أنه كل، وما تسميه ميلاني كلاين الثدي أو القضيب يُختبرا على أنهما الأم أو الأب بالكامل.
لقد وثبت ميلاني كلاين خطوة أولى إلى الأمام من خلال توضيح التعقيد الهائل للحياة النفسية للطفل، تعقيد مثله مثل "برج بابل" كما يسميه جان بيجوان (Jean Begoin) في وصفه للتماهي الإسقاطي، الذي يسمح وضعه الاكتئابي تدريجياً بتقليل الانشطارات والتمهيد لدمج/ تكامل أفضل وبناء جيد، وهذا التماهي الإسقاطي يأخذ معنى تبسيط تنظيم وعمل الشخصية؛ ذلك لأنه في الوضع الاكتئابي يُنظر إلى الواقع بشكل أكثر موضوعية، من خلال قبول الحداد على أم تكون بالكامل تحت تصرفه، حيث يفهم الطفل أنها شخص في حد ذاتها كرست نفسها له في بداية حياته. ويمكن للطفل أن يعترف بما فعلته من أجله، ويشعر بالاعتمادية والمسؤولية عن الهجمات التي وقعت ضدها، ويشعر بالذنب ويوافق على الإصلاح.
أما بيون فيقفز بنا قفزة ثانية إلى الأمام من خلال التحدث إلينا عن الحفزات الإبيستموفيلية التي تلعب دورًا أساسيًا في الأداء العقلي والنمو (الرابط المعرفي link K). وهو قد وصف العلاقة الأولى الأم-الطفل وطوَّر أول نظرية تحليل نفسي للفكر. فلم يعد الأمر يتعلق بشكل غير طبيعي بل بشكل طبيعي من التماهي الإسقاطي. فالتماهي الإسقاطي يؤسس هذا التواصل النفسي ويسمح بتطور الفكر. (انظر مثال المعالجة التي تنظف غرفة العلاج بدقة قبل استقبال فتاة صغيرة لجلستها).
بالنسبة لفرويد لا يوجد فرق حقيقي بين الفضول والحاجة إلى المعرفة، وهو يتحدث عن ذلك فيما يتعلق بالنظريات الجنسية للأطفال، حيث يتحدث عن الفضول الجنسي المرتبط بتخييلات المشهد البدائي/ الأولي الذي يحدث عند عمر الثمانية عشر شهرًا تقريبا / أربع سنوات مرتبطًا بمركب الأوديب ومركب الخصاء.
ولقد تحدثت ميلاني كلاين منذ بداية عملها عن وجود حفزات إيبستموفيلية أبكر بكثير؛ إذ يصبح فضول الطفل لجسد الأم فضولًا لجسده، والذي يمتد إلى أجساد وعقول أشخاص آخرين غير الأم، ثم تدريجيًا من خلال الإزاحات المتعاقبة، إلى العالم بأسره. هذا الامتداد التدريجي من خلال التكوين الرمزي هو بحث عن الدلالة بالمعنى الذي يفهمه بيون.
ويشير ميلتزر (Meltzer) إلى وجود فرق منهجي بين أفكار كلاين وأفكار فرويد، ففي حين أن عمل فرويد كان موجها نحو الماضي وإعادة تشييد الماضي من خلال عدسات علم النفس المرضي (السايكوباثولوجي)، وجهت كلاين انتباهها إلى المستقبل وإعادة تشييد البناءات النفسية من خلال عدسات نمو الطفل والعقبات التي تحول دون نموه. ولم يسمح عملها على الحفزات الإبستيموفيلية بالتمييز بين الدوافع المختلفة للطفل، الدوافع لفضول الطفل. وليس من السهل دائمًا معرفة ما إذا كانت الحاجة إلى اختراق واستكشاف جسد الأم مرتبطة بالحاجة الأساسية إلى المعرفة، أي الغريزة الإبستيموفيلية، أو بالحفزات السادية المدمرة، أو حتى بالحاجة إلى تهدئة الحصر الاضطهادي أو المدمر المتعلق بالحالة الجيدة أو السيئة، السليمة أو التالفة، الخيرية أو الاضطهادية، للمحتويات الأمومية.
مع بيون، تلعب الحاجة إلى المعرفة جنبًا إلى جنب مع رابط الحب (Love/L link) أو رابط الكراهية (Hate/H link)، والذي يسميه رابط المعرفة (Knowledge/K link) دورًا أساسيًا في النمو والأداء العقلي، وتكمن خصوصية بيون في حقيقة إنشاء تسلسل زمني بين التجربة الوجدانية والتخييل اللاواعي والفكر. إن التجربة الوجدانية هي الأولى في حد ذاتها، ولا يمكن تصورها، فهي تتطلب عمل الوظيفة ألفا التي تخلق الأفكار، وهذه الشخصية - مثلها مثل الشخصيات التي تبحث عن مؤلف لبيرانديلو - يجب أن تجد جهازًا نفسيًا يحتويها وينظمها في تخييلات لاواعية.
وفي مقال عام 1986 في مجلة العلاج النفستحليلي للجماعات، بعنوان "و. ر. بيون" (WR Bion)، يخبرنا كولن جيمس (Colin James) وهو عضو في رابطة التحليل النفسي البريطانية، أنه في عام 1963 في مقال "عناصر التحليل النفسي" (Elements of Psycho-Analysis)، يقدم Bion مسلمة افتراضية أن التجربة الأكثر بدائية يحكمها ما يطلق عليه "عناصر بيتا" التي هي العناصر الخام للتجربة الحسية والوجدانية، العناصر التي لا يمكن فيها التمييز بين ما هو نفسي وما هو جسدي، والتي تصلح فقط للتماهي الإسقاطي. وتُحوِّل الأم، وهي الموضوع الجيد، ما هو لا-ثدي إلى ثدي، وتستبدل لدى الطفل هذه التجربة المخيفة والمثيرة للحصر في البداية بتجربة أكثر إيجابية، وذلك بفضل موقف جديد تجلبه مع الطعام و "الاحتضان" (Holding). ويلعب الجهاز النفسي للأم في المقام الأول هذا الدور بالنسبة للطفل ويوصله، عن طريق التماهي الإسقاطي، بتجربة وجدانية راهنة.
ويقال إن الأم، من خلال تواصلها مع طفلها، تحول عناصر بيتا، وهي المشاعر الوجدانية المضطربة للطفل، بفضل وظيفة "ألفا" (التي هي وظيفة الأم لتنظيم المعنى). ويرى الطفل عناصر بيتا (أي عناصر التجربة البدائية) التي تحولت من خلال تأثير الثدي، والذي يعني هنا مجمل علاقته مع أمه، إلى عناصر ألفا التي تحمل دلالة نفسية يمكن تخزينها وكبتها وتطويرها باستمرار وترميزها. إن عناصر أفكار الحلم وتحويل عناصر بيتا هذه إلى عناصر ألفا هي التي تعطي معنى ودلالة لتجربة الطفل من خلال استجابة الأم لإسقاطات الطفل.
فيصبح "الثدي الجيد" قبل كل شيء وظيفة الاحتضان والتفكير للأم، وقدرات التفكير لدى الطفل تتطور من خلال التماهيات الإسقاطية ثم الاستدماجية مع تلك الخاصة بالأم.
ولدينا ثلاثة نماذج للأداء النفسي
1. لدى فرويد: النموذج الفرويدي هو نموذج نفسي-جنسي؛ حيث ينتقل النمو من الفم إلى الأعضاء التناسلية.
2. النموذج الكلايني: وهو نموذج بنائي؛ حيث ينتقل النمو من عدم التكامل إلى التكامل من خلال الوجدانات والحصر.
3. نموذج بيون: وهو نموذج معرفي؛ حيث ينتقل التطور من الجهل إلى المعرفة، من خلال النظريات الطفلية المتعاقبة حول الوقائع الأساسية للحياة. وقد صف موني كيرل (Money Kyrle) (محلل نفسي آخر من الحركة الكلاينية وما بعد الكلاينية) في عام 1968 المراحل الثلاث المتعاقبة للتطور المعرفي: المعادلة الرمزية وفكرة الحلم والتمثل اللفظي. وتعتمد كل مرحلة على التعرف الناتج إما عن لقاء تصور مسبق مع تجربة، أو من لقاء مفهوم أكثر بدائية مع تجربة. فإذا لم يتم تشكيل المفهوم، كما يقول بيون، بسبب عوامل وجدانية فإن التصور الخاطئ أو الكذب/ الخدعة يحدث بدلا عنه.
إن هذه النماذج الثلاثة لا يستبعد أحدها الآخر بل إنها تتراكب.
الحلم
تصور جديد للأحلام.
بالنسبة لفرويد، تتشكل الأحلام من البقايا النهارية.
وبالنسبة لميلاني كلاين فالأحلام هي تخييلات لاواعية تستمر في الأحلام.
أما بالنسبة لبيون، تظهر الأحلام باعتبارها تجارب يمكن أن تنجح أو تفشل، وتهدف إلى التفكير في موقف أو صراع وجداني.
مثال على حلم: "تقول مريضة إنها اختطفت وأنها وضعت في القبو دون أن تتمكن من الحصول على أي إشباع أكثر من الطعام".
وتتحدث المريضة في تداعياتها عن افتقارها إلى المال الذي يجبرها على شد الحزام لدرجة أنها لم تعد قادرة على التسجيل في دروس الغناء التي كانت من أولوياتها، لكنها تشعر بالسوء والمعاناة، وتقول إن هذا الحلم يوضح الوضع الذي تعيشه حاليًا.
إن التأويل مع فرويد كان سيركز على المرحلة الفمية التي بدا أن المريضة محبوسة ومثبتة بها؛ لأن الطرف الذي يختطف المريض يمكن فهمه على أنه الوالد المغوي (séducteur) في نظر الطفل، الذي تدافع عن نفسها ضده دون أن تتمكن من الوصول إلى المرحلة الأوديبية، حيث نقبل حب الأب. كان المحلل سيشعر بخطر الانتقال إلى الذهان دون أن يتمكن من تجاوزه.
ومن الممكن أن نقول أن هذا الحلم هو مثال لنظرية ميلاني كلاين التي يمكن أن تقول إن المريض يتراجع إلى الوضع السكيزويدي البارانويدي، ويمكننا أن نرى أنها تكافح في براثن حصر بارانويدي حيث تهيمن الموضوعات السيئة. إنه حلم يظهر أن المريضة تكابد الحصر الذهاني.
ولكن مع بيون، يمكننا أن نضيف أن الثدي الجيد الذي يفكر قد استبعد، وأن الشعور بالقوة المطلقة الطفلية يحاول الهيمنة، وأن الشخص الذي اختطفها هو ذلك الجزء من نفسها الذي يثبتها في العبودية، وهنا كان يمكن أن يتحدث ج. ل. جويينا (J. L Goyena) عن الجزء المافيوي (من المافيا) الذي يهيمن تمامًا على المريضة ويجعلها تقوم باستبعاد الثدي التحليلي ليحكم عليها بألا تأكل إلا الخبز الجاف والماء.
مع بيون، يمكننا أن نقول أن المريضة تصور تجربة اللاثدي، فالجزء الذي يختطفها يمثل الجزء الذهاني منها الذي يسعى إلى سحق أي اعتراف بالواقع النفسي بسبب المعاناة التي لا تطاق التي يوقظها والذي يدّعي إطعام المريضة بشكل أفضل من الثدي التحليلي وقدرته على التفكير. فالمريضة محكوم عليها بعدم عيش التجربة، لأنها كما في الأيام التي كانت فيها رضيعة، واقعة في قبضة الرعب الذي لا يُسمى، مذعورة من فكرة التغيير الذي سيكون كارثة جديدة (تغيير كارثي بالمعنى البيوني).
وبالتالي فإن الحلم هو تجربة تكون ناجحة جزئيًا، ثم تفشل في تطوير الإحباط وتحويله إلى تجربة يمكن أن تأخذ دلالة تسمح بالتعلم من المحلل.
ونتيجة ما قيل للتو هو تصور جديد للاضطرابات العصابية والذهانية.
ثانياً: تصور جديد للاضطرابات العصابية والذهانية
يمكن النظر إلى العلاقة بين الميكانزمات العصابية والذهانية على أنها مشكلة اقتصادية تحكمها التقلبات بين الوضعين السكيزويدي البارانويدي والاكتئابي، حيث إنه لم يتم حل أي من الوضعين بشكل نهائي. (انظر كتاب مارجو فادل (Margot Waddel) "حيوات داخلية" (Vies Intérieures) عن دار نشر "Hublot").
يشير بيون إلى أن ما تضمنه يظل دائما موجودًا بشكل جزئي. كما يشير إلى أن الانسحاب من الواقع هو وهم، وليس واقعة، فهو ناتج عن انتشار التماهي الإسقاطي ضد الجهاز النفسي، والاتصال بالواقع ليس مفقودًا تمامًا، ولكنه مخفي في عقل المريض وفي سلوكه بسبب هيمنة تخييل القدرة الكلية الذي يهدف إلى تدمير الواقع أو القدرة على التعرف عليه.
وبدلاً من العصاب أو الذهان، يمكننا التحدث عن الوظائف أو أجزاء من الشخصية الطبيعية والعصابية والذهانية والتي توجد في أية ذات بنسب متفاوتة.
الشخصية الطبيعية هي تلك التي تكون فيها الجوانب الذهانية غير كبيرة ويتم التحكم فيها بشكل جيد.
الشخصية العصابية هي تلك التي يتم فيها التحكم في الأجزاء الذهانية بشكل سيئ وتميل إلى تعطيل الأداء النفسي، مما يؤدي إلى تشوهات واضطرابات يمكن أن تندلع في شكل هجمات وحصر ونكوص. لكن الذات (sujet) تحتفظ ضد كل نكوصاتها التخريبية كلية القدرة بنظام القيم الذي تم إرساؤه/ تطويره/ تفصيله في الوضع الاكتئابي والذي يعتمد على استقرار الحب والامتنان تجاه الموضوعات الأولية. إن الذات لا تكون مهددة من الداخل، ولكنها تخضع لاختبار تخييلات الرغبة والغيرة، وتخييلات التملك والحسد، لكن هذه الدراما تظل محصورة قدر الإمكان داخل مجال الموضوعات الجيدة التي تم استدماجها بحب وأمان كافيين لتبقى راسخة في الأنا.
الشخصية الذهانية هي تلك التي تكون فيها الجوانب الذهانية مهيمنة، ولا تتجلى من خلال الحصر أو النكوص؛ بل من خلال كم هائل من التماهي الإسقاطي للتخلص قدر الإمكان من أي إدراك حسي للواقع وربما للحياة نفسها. وبما أن الجزء العصابي لم يكتسب قوة كافية لمقاومة الحصر الناتج عن هجماته بوسائله الخاصة، فهو يستسلم للميكانزمات الذهانية ولسلطتها، وذلك عن طريق تدمير قدرات الحب، ثم عن طريق التفكير، وأخيراً في بعض الأحيان عن طريق تدمير الحياة نفسها.
توفيت ميلاني كلاين في عام 1960 عن عمر يناهز ثمانية وسبعين عامًا بعد أن دربَّت كلاً من وينيكوت (R DWinicott) وملتزر (Meltzer) وبيون (W.R. Bion) وروزنفلد (Rosenfeld) وإستر بيك (E.Bick).
وقد قدمت ميلاني كلاين إجابات على أسئلة حول مزج فرويد بين غريزتي الحياة والموت، ففي نظر بيون إن شدة عدم تحمل الإحباط هي التي تظهر أنه من الممكن دائمًا التغلب عليه، وذلك بفضل العلاقة بالموضوع، وقد أظهرت ميلاني كلاين وفقًا لذلك كيف يمكن تحويل الحسد، وهو تعبير عن غريزة الموت، إلى امتنان (راجع كتاب "الحسد والامتنان").
ويتناول ميلتزر الفرق بين الذهان والعصاب باستخدام الأعمال الحديثة عن التوحد بناءً على ملاحظات الرضع كما تمت ممارستها في عيادة تافيستوك في السبعينيات من قبل إستر بيك.
دراسات حول التوحد: (أفكر في فرانسيس تاستين (Francès Tustin) (1913-1994) التي عملت أيضًا في مصحة تافيستوك) ولكنها تخصصت في التوحد، وقد أوضحت أن هناك هوية لاصقة (identité adhésive) يتم من خلالها تحديد الهوية على سطح الموضوع، وأي انقطاع في هذا النمط من العلاقة يؤدي إلى حصر كارثي. إنه حصر السقوط اللانهائي، والتسييل، والتفكيك، بسبب فقدان الحاوية النفسية، ويصاب بعض الأطفال المصابين بالتوحد بالعدوانية عندما يحل التماهي الإسقاطي محل الهوية اللاصقة أثناء التطور العلاجي.
ويتبنى بيون فكرة أن الحياة تبدأ قبل الولادة (راجع الطفل روبن البالغ من العمر 10 أشهر والذي لم يكن ينام).
أما ملتزر فهو يتحدث عن عمى الطفل عند الولادة بسبب القلق من جمال العالم، وافترض في عمله في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات أن الوضع السكيزويدي البارانويدي قد يكون دفاعًا ضد الطبيعة التي لا يمكن تصورها لهذه التجربة الأولى، ولن يحدث التعافي من هذا الجرح النرجسي إلا في الوضع الاكتئابي حيث يكتسب الفرصة لاستعادة جمال العالم (التكافؤ مع الامتنان الذي يكتشفه خلال الوضع الاكتئابي). ويفترض ميلتزر أن هذا ليس تجلياً من تجليات الحسد، بل هو عدم تحمل لجمال الموضوع مما يؤدي إلى الحاجة إلى نزع القداسة عنه وتفكيكه. وقد يوجه الحسد نحو هؤلاء القادرين على عدم نزع قداسة الموضوع.
ولدينا هنا مصدر لفهم الانحرافات التي يتمثل هدفها النهائي في تدمير الموضوعات الداخلية للأشخاص محل الحسد.
ثالثاً: مساحة نفسية جديدة
في عام 1920، أعاد فرويد صياغة نظرية الليبيدو (الهو والأنا).
إن الفضاء المقابل لنظرية الليبيدو هو فضاء أحادي البعد، في حين أن الفضاء الذي يحتوي على الموضوعات الداخلية وعلاقاتها لدى ميلاني كلاين هو رباعي الأبعاد. فهي لا تتحدث عن فضاء، بل عن عالم داخلي أو جغرافيا جسد الأم. ولدى كلاين كما لدى بيون ينشأ أصل الفضاء من العلاقات الداخلية، وينتقل إلى العالم الخارجي لإعطاء معنى للعلاقات الخارجية ذات الطبيعة الوجدانية. وقد أدى التطبيق الصارم للطريقة التحليلية بميلاني كلاين إلى وصف عالم داخلي مأهول الموضوعات التي تتفاعل مع بعضها البعض. وهذا يفترض وجود مساحة نفسية داخلية تحتوي على موضوعاتها التي يتم إخراجها في زمكان الجلسة، والتي يتم التعبير عنها أيضًا من خلال التجسيد في اللعب أو من خلال تمثلات الرسم أو الحلم.
وقد قدم بيون عام 1965 في كتابه "التحولات" أول إشارة صريحة إلى مصطلح الفضاء النفسي، وقد طور بيون في هذا الكتاب نظرية فضاء الفكر (راجع كتاب "الانتباه والتأويل 1970) والتي أطلق عليها اسم "الفضاء الوجداني" (Emotionnal Space).
ويقول ديدييه هوزيل (Didier Houzel) أن هناك تحول إبستيمولوجي/ معرفي كبير في إعطائنا مفهوم "الفضاء النفسي" معنًا ميتاسيكولوجيًا. إن "فضاء الفكر" و"الفضاء الوجداني" ليست استعارات بل هي تجربة الفضاء الداخلي الذي يعتبر أوليًا. ويُعرِّف بيون الفكر بأنه فضاء يشغله "اللاموضوعات". ويقول: "إن الشعور بالاكتئاب هو المكان الذي كان فيه الثدي أو أي موضوع آخر مفقود، وهذا المكان هو المكان الذي كان يقع فيه الاكتئاب أو أي وجدان آخر" ("الانتباه والتأويل"). وهو يدعو المحللين النفسيين للقيام، مع الفضاء الحسي، بنفس عمل التحرر الذي قام به المهندسون للانتقال من الهندسة الإقليدية إلى الهندسة غير الإقليدية. ويقول: "يتطلب الموقف التحليلي عمقًا في المجال أكبر من ذلك الذي يمكن لنموذج مستمد من الفضاء الإقليدي توفيره" (راجع "التحولات" الترجمة ص82).
إن أساس التوجيه ليس جسد المرء نفسه، ولكن أول موضوع ينبثق من الانطباعات الحسية المشوشة للرضيع حديث الولادة، أي الثدي أو الحلمة.
وميلتزر هو المحلل النفسي الذي طور مفهوم الفضاء النفسي، وهو يقدم أربعة مقترحات:
1. الفضاء النفسي متعدد الأبعاد.
2. له حدود ثلاثية.
3. له قاعدة ملموسة.
4. وهو منظَّم.
1. الفضاء النفسي متعدد الأبعاد:
يؤكد بيون أن إيستر بيك لفتت انتباهنا إلى الفضاء ثنائي الأبعاد لدى الأطفال المصابين بالتوحد؛ إذ تُختبر الذات (self) باعتبارها سطح حساس في الهوية اللاصقة، حيث توجد علاقات التصاقية أو سطحية كما هو الحال في علاقات التسلية الاجتماعية. مع الأبعاد الثلاثية، يظهر الفضاء الداخلي حيث يمكن إسقاط الموضوع أو استدماجه. إنه تواصل حقيقي يفترض الإسقاط في الموضوع لأجزاء من الذات (self) وإعادة الاستدماج. ويمكن تنظيم العالم الداخلي كما يمكن أن تولد فكرة بناءً على العلاقة ثلاثية الأبعاد. (لا يوجد زمان بعد، ولا يوجد تاريخ بعد). في البعد الرابع وهو بعد الزمن النفسي المرتبط باستدماج الوالدين الجيدين، اللذَين ينسجان داخليًا قصة وذلك بفضل وفرتهما (fécondité). وتشير العلاقة بالموضوع المستدمجة إلى الانتقال من علاقة نرجسية إلى علاقة ذات طبيعة موضوعاتية.
2. الحدود الثلاثية:
• حد مع الفضاء الداخلي للموضوعات الخارجية.
• حد مع الفضاء الداخلي للموضوعات الداخلية.
• حد مع العالم الخارجي.
وقد اهتمت ميلاني كلاين بشكل خاص بالحد الفاصل بين الفضاء الداخلي للذات (self) والفضاء الداخلي للموضوعات الخارجية في عام 1946، وقد أظهر وصف التماهي الإسقاطي إمكانيات التداخل بين الفضاء الداخلي للذات (self) والموضوع (انظر على سبيل المثال في عمل فني "لو كنت أنت" (بمعنى لو كنت مكانك أو في موقفك)" لجوليان جرين (Julien Green) والذي يوضح أداء الشخصية الرئيسية حيث يتم إسقاط جزء من الذات (self) في الموضوع. إنها طريقة أحفورية للتماهي تشير في التحليل إلى هؤلاء المرضى حيث يقصِف المحلِّل (المحلِل أم المحلَل) ويغزوه جزء من شخص المحلَّل (المريض) ويختلط الأمر حتى أننا لا نعرف من هو من بالتحديد.
إن الحد بين الفضاء الداخلي للذات (self) والفضاء الداخلي للموضوعات الداخلية استكشفته ميلاني كلاين بشكل أقل. يجب أن نفترض هذا الحد للتمييز بين شكل من أشكال الاستدماج النرجسي "للذات (self)-الموضوع" الذي تتماهى به الذات (self) من خلال نوع من التماهي الإسقاطي في الموضوعات الداخلية، هو تماهي استدماجي حقيقي، مما يترك للموضوعات الداخلية نصيبها من الغموض أو المجهول أو غير المستكشف.
3. الفضاء النفسي له أساس ملموس:
أكدت كلاين هذا منذ عام 1940.
بعد اجتيافه للوالدين يشعر الطفل بهما كأشخاص أحياء داخله في جسده بطريقة ملموسة يتم بها اختبار/ عيش تخييلات اللاوعي العميق، إن والديه المجتافين هما من خلال تفكيره موضوعات باطنية (internes) أو داخلية (intérieurs).
ماذا تعني هذه الصفة الملموسة للموضوعات الداخلية؟
وهذا يعني أن كل موضوع في العالم الداخلي يستثمر ليس فقط بصفات وجدانية، ولكن أيضًا بصفات حسية دقيقة كما لو كانت ترسيبات التجارب التي يعيشها الطفل فيما يتعلق بالموضوع بطريقة حلوى المادلين (Madeleine) في رواية مارسيل بروست (Proust). هذه هي الصفات الملموسة التي نراها في أحلام الطفل أو رسمه أو ألعابه.
ويميز بيون في جدوله (بين) ثمانية مستويات من الأكثر واقعية إلى الأكثر تجريدًا، وهو جدول منظم في محورين، أحدهما عمودي وهو المحور الوراثي ويمثل نشأة الأفكار وتطورها، أما الاستخدام الذي من أجله يسعى نشاط الفكر فيمثله المحور الأفقي. أما الجدول فهو تمثل رمزي يمكن تصوره على أنه حاوية أفكار، بالإضافة إلى كونه مولدًا للأفكار. ولكن يجب أن ينظر إليه من قبل المحلل على أنه تصنيف لتأويلاته الخاصة، حتى لا يقع في الروتين (لكن بيون يضيف في "محاضرات في تافيستوك" أنه على كل محلل استخدامه بما يتناسب أو يحلو له).
4. إن الفضاء النفسي منظم، لكنه ينظم نفسه تدريجياً في بنية معقدة ابتداءً من حالة لا شكل/ قوام لها:
وتقول فرانسيس تاستين أن الرضيع يشعر بأن مادته النفسية سائلة أو غازية؛ مما يثير لديه حصر التفريغ أو الانفجار إذا تشقق الغلاف النفسي. إن تطور الفكر هو الذي يعطي الفضاء النفسي قوامه (consistance) وهذه هي الولادة النفسية. فالفكر هو جمالون/ هيكل عظمي داخلي يجعل تفتح (déhiscence) (قطع/rupture) الحدود محتملاً. في حال لم يتطور الطفل بشكل كافٍ في إطاره الداخلي، فإنه لا يستطيع أن يتحمل الإحباط، ويبقى في نوع من التكافل (السيمبيوز) مع الأم. إن هذا الجمالون الداخلي هو نظام ديناميكي داخلي ناتج عن تفاعل معقد بين الطفل والموضوعات الداخلية. إن التفاعل بين الطفل وموضوعاته الداخلية هو الذي يدعم تنظيمه الداخلي منذ البداية، في هذا التنظيم تحدث إسقاطات الطفل ولكن أيضًا صفات الموضوع الداخلي. ما يستدخله الطفل هو نتيجة لتفاعلاته.
رابعًا: المجموعة
تُعرَّف عقلية المجموعة:
• بالإجماع
• وبالمجهولية (Anonymat)
• وبالتوحيد (Uniformité) النهائي للحالات الوجدانية التي تكون فردية ومتباينة في البداية
• وبتضارب هذا الأداء الجماعي مع الأداء الفردي.
1) الفرضيات الأساسية والبدائية الذهنية/ البروتوذهني (proto mental)
وفي أبحاثه عن الجماعات يؤكد بيون من جديد على الحاجة إلى وضع عمل ميلاني كلاين على التماهي الإسقاطي والعلاقة بين الوضعين السكيزويدي البارانويدي والاكتئابي في الاعتبار من أجل فهمه.
في كتاب "بحوث عن الجماعات الصغيرة" (وهو كتاب صدر بالفرنسية به مجموعة من المقالات لبيون عن الجماعات) يؤكد بيون على أن هذا الموقف مليء بالوجدانات المشوشة والمكثفة: "التي تمارس على الفرد تأثيرًا عميقًا وغير ملحوظ في كثير من الأحيان، والنتيجة هي أن هذه الوجدانات يتم تحفيزها على حساب حُكمه (قدرته على الحكم)".
ويؤكد بيون من جديد على أهمية المجهولية في التعبير عن العداء، ولفهم كيفية عمل المجهولية يفترض "عقلية جماعية، تشكل الخلفية المشتركة حيث يتم دفع المساهمات المجهولة وبفضلها يمكن تلبية الحفزات والرغبات التي تحتويها هذه الحفزات... أعتقد أن عقلية الجماعة تقدم تجانسًا/ توحيدًا (uniformité) يتناقض مع تنوع الفكر الخاص بعقلية الأفراد الذين ساهموا في تشكيلها". بالإضافة إلى ذلك، تتعارض عقلية الجماعة مع الأهداف الواعية للأفراد الذين يشكلون الجماعة.
كيف يمكننا أن نفهم أن المساهمات الفردية تحقق التجانس/ التوحيد (uniformité) الجماعي؟
ما هو مبدأ التوحيدية (uniformisation) والتماسك (cohésion)؟ وكيف يتم تنظيم الدينامية بين الأداء الفردي وعقلية الجماعة؟ هل المجهول يعني اللاوعي لأن بيون يستخدم أحيانًا أحدهما محل الآخر؟
ينتج عن هذه الأسئلة أربعة مقترحات مفاهيمية:
• الافتراضات الأساسية
• البدائية الذهنية/ البروتوذهنية
• التكافؤ (valence)
• تخييلية الموضوعات الجزئية
الافتراضات الأساسية:
1) المزاوجة (couplage): في المجموعة، هناك تشكيل مبعثر لزوج يعطي للجميع الأمل في مستقبل أسطوري.
2) الهجوم- الهروب (Attaque-Fuite): هذا هو الحل التلقائي للمجموعة في مواجهة موقف هجوم أو موقف هروب تعيشه كخطر على المجموعة.
3) الاعتمادية: تتحد المجموعة لتحديد الصورة الدقيقة للموضوع الذي يمكن أن تعتمد عليه بشكل كامل ومطلق.
البدائية الذهنية/ البروتوذهنية:
إنه كلٌ يظل فيه الجسدي والنفسي والعقلي غير متمايز كما يقول بيون، هو مصفوفة تنشأ منها الوجدانات الخاصة بالفرضيات الأساسية، ويضيف بيون: "سأفترض أن الحالة الوجدانية تسبق ظهور الفرضية الأساسية، ورغم ذلك... تتطور الجماعة حتى يمكن التعبير عن وجداناتها بمصطلحات نفسية... في تلك اللحظة أقول أن الجماعة تتصرف كما لو كانت فرضية أساسية".
التكافؤ (valence):
يجلب بيون المبدأ التنظيمي الذي يشرح الوظيفة النفسية الجماعية: "أستعير هذا المصطلح من الفيزياء للتعبير عن قدرة الأفراد على التوافق/ الاندماج الفوري وغير الإرادي للتصرف وفقًا لفرضية أساسية يتشاركونها. هذا التوافر النفسي التوافقي، "سيعبر عن الوظيفة التلقائية واللاواعية للجانب الجمعي في شخصية الإنسان".
تخييلية الموضوعات الجزئية:
في أثناء ابتعاده عن ممارسة الجماعات، سيخضع بيون تجربته مع الجماعات بأثر رجعي لنموذج ميلاني كلاين في الفصل الأخير من كتابه، فيقول: "إن البالغ الذي يريد أن يتصل بالحياة الوجدانية لمجموعة ما، يواجه مهمة هائلة مثل تلك التي يواجهها الرضيع في جهوده لإقامة اتصال مع ثدي الأم، وفشل جهوده يتجلى في النكوص". ويوجد هنا تغير مهم في المنظور إذ صار الأمر تخييل شخصي لموضوع جزئي تمثله الجماعة لكل مشارك، ولم يعد ظاهرة وجدانية تمثلية جماعية.
مساحة جديدة لنكون محللين نفسيين:
يوضح لنا بيون في كتابه "بيون في مصحة تافيستوك" ("Bion à la Tavistoc") قدرته على بناء فكرة سقراطية مع الجماعة تحفزها وتوجهها نحو تنمية الفكر الإبداعي. لا يوجد علم جديد، كما يقول ج. .ل. جويينا (J.L Goyena) في مقدمته لهذا الكتاب، بخلاف ما ينشأ عن عملنا السريري، فإن منطقة الاضطراب بامتياز هذه، والتي هي اللقاء التحليلي ستثير، من ناحية، نمو (أو عدم نمو) نفسيتين في العمل، ومن ناحية أخرى، مواجهة في ذهن المحلل، بين المفاهيم القديمة الواردة في تدريبه والمواقف الجديدة غير المنشورة وغير المدروسة، والبحث عن نفسية قادرة على إعطائها معنى.
وهذه الثلاثية كما يقول (ج. ل. جويينا) تبدو أنها المحور الذي بني عليه عمله بطريقة نقدية وإبداعية؛ نقدية لأنه فرز وصحح نظريات أسلافه، وإبداعية لأنه فتح الأبواب التي ظلت مغلقة أمام التحليل الكلاسيكي من خلال توسيع اكتشافات فرويد وميلاني كلاين، خالق ثورة كوبرنيكوس الجديدة التي فرضها على التحليل النفسي مندرجًا في التيار ما بعد الكلايني.
30 سبتمبر/أيلول 2024